[شرح حديث: (لولا أن أشق على المؤمنين لأمرتهم بتأخير العشاء، وبالسواك عند كل صلاة)]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب السواك.
حدثنا قتيبة بن سعيد عن سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه قال: (لولا أن أشق على المؤمنين لأمرتهم بتأخير العشاء، وبالسواك عند كل صلاة)].
أورد أبو داود رحمه الله باب السواك.
وذلك بعد أن أورد أبو داود رحمه الله التراجم المتعلقة بالاستنجاء والاستجمار وآداب قضاء الحاجة، وهي أبواب متعددة تتعلق بآداب قضاء الحاجة وبما يكون به إزالة أثر الخارج بعد ذلك، ثم انتقل إلى الطهارة وإلى الوضوء وكذلك تطهير الفم وتنظيفه حتى تكون رائحته طيبة، وذلك باستعمال السواك، وقد جاء في سنن النسائي أنه قال عليه الصلاة والسلام: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب)، فالسواك فيه فائدة دنيوية وهي كونه مطهرة للفم، وفيه فائدة دنيوية وأخروية وهي أنه مرضاة للرب؛ لأن رضا الرب عز وجل فيه الفوائد الدنيوية والأخروية، وفيه سعادة الدنيا وسعادة الآخرة، فالنبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث بين الفائدة والحكمة من مشروعية السواك، وأن فيه طهارة ونظافة ونزاهة ورائحة طيبة، وفيه رضا الله سبحانه وتعالى حيث قال عليه الصلاة والسلام: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب).
وهذا الحديث فيه الجمع بين ذكر الفائدة العاجلة والآجلة؛ لأن الفائدة العاجلة هي في كونه مطهرة للفم، والفائدة العاجلة والآجلة هي كونه مرضاة لله سبحانه وتعالى؛ لأن مرضاة الله عز وجل فيها الفوائد العاجلة والآجلة، ويشبه هذا -أي: الجمع بين الفائدتين: العاجلة والآجلة- ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه في مرض موته لما طعنه المجوسي الطعنة التي نال الشهادة بها وتحقق بذلك ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم أنه شهيد، وأيضاً استجاب الله دعاءه بأن ينال الشهادة في سبيل الله وأن يكون ذلك في بلد رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأنه دعا بهذه الدعوة في إحدى سفراته، كما في صحيح البخاري أنه قال: (اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل وفاتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم)، وقد حقق الله له ذلك رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وطعن وهو يصلي بالناس صلاة الفجر، طعنه رجل مجوسي، وبقي أياماً وبطنه مفتوحة، وكانوا يسقونه اللبن فيخرج من جوفه، ويسقونه الماء فيخرج من جوفه، وكان يغمى عليه ويفيق، فكان الناس يعودونه، فممن عاده رجل شاب جاء إليه وأثنى عليه ومدحه، وقال: هنيئاً لك يا أمير المؤمنين! صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحسنت صحبته، ثم صحبت أبا بكر، ثم وليت، ثم شهادة، ثم كذا وعدد له أشياء يمدحه فيها فقال: (وددت أن يكون ذلك كفافاً لا علي ولا لي)، وهذا من تواضع أولياء الله، كما قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:٦٠] فلما ذهب الغلام وإذا ثوبه يمس الأرض فقال: (ردوا علي الغلام.
فردوه إليه، فقال: يا ابن أخي! ارفع ثوبك؛ فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك)، أنقى لثوبك يعني: لا يتوسخ ولا يصيبه شيء من الأذى إذا رفعته، وهذه فائدة عاجلة وفائدة دنيوية، والفائدة العاجلة والآجلة في قوله: (وأتقى لربه)؛ لأن تقوى الله عز وجل فيها الفوائد الدنيوية والأخروية، كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:٢ - ٣]، وقال عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:٢٨٢]، وقال سبحانه: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:٢٩].
فأرشده رضي الله تعالى عنه وأرضاه إلى هذه الفوائد العاجلة والآجلة بقوله: (ارفع ثوبك؛ فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك) فهذا من جنس ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب)، ففي الحديث فائدة دنيوية وفائدة دنيوية وأخروية، وعمر رضي الله عنه وأرضاه قال هذا الكلام مع ما هو فيه من الشدة، فمع ما هو فيه من الشدة ما تساهل في أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، والذي نبهه رجل أثنى عليه ومدحه مدحاً عظيماً، ولكنه لما رأى هذا الأمر المنكر نبهه عليه، وهذا يدلنا على أن الأمور المحرمة ينبه عليها، ولا يتساهل في بعض الأمور كما يقال في هذا الزمان بعض العبارات الخاطئة، كقولهم: الدين فيه لباب وقشور! وبعض الناس يتكلم في القشور ويترك اللباب.
وهذا كلام ساقط؛ فإن الدين كله لباب ولا قشور فيه، وإذا كان عمر رضي الله عنه وأرضاه قد نبه على تحريم الإسبال والابتعاد عنه مع ما هو فيه من الشدة وما هو فيه من المرض الشديد والألم الشديد، فهذا يدلنا على أن أمور الدين كلها يجب العناية بها، ولكن عندما تكون هناك أمور مجتمعة يبدأ بالأهم فالأهم، يعني: إذا كان هناك أمر خطير وقع فيه الإنسان وأمر آخر دونه بكثير فلا يذهب ويتكلم في الأمر اليسير ويترك الأمر الخطير، بل الواجب البداءة بالأمر الخطير والأمر الشديد والعظيم، ثم بعد ذلك يؤتى بما وراءه، كما فعل رسل الله الكرام عليهم الصلاة والسلام؛ فإن كل نبي من الأنبياء كان يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ثم بعد ذلك ينبه على الأخطاء التي وقع فيها قومه، مثل الذين كانوا ينقصون المكاييل والموازين، فإن نبيهم بعدما دعاهم إلى التوحيد نبههم على ما عندهم من الأخطاء وما عندهم من الأمور المحرمة، فبدأ بالأهم فالأهم.
والرسول صلى الله عليه وسلم لما أرسل معاذاً إلى اليمن قال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، وهذا يبين لنا تقصير الذين ينتسبون إلى الدعوة في هذا الزمان ويعنون بأمور فرعية وأمور جزئية وهي في الحقيقة مهمة، ولكن أهم منها إخلاص العبادة لله عز وجل والابتعاد عن الشرك وتحقيق التوحيد، وهذا هو الأهم، وهذا هو الذي يجب البداءة به ويجب العناية به، والأمور الأخرى تأتي تبعاً، لكن لا تكون هي كل شيء وهي الشغل الشاغل، والشيء الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم هو الذي يهمل وهو الذي يغفل عنه، فقد يرى بعض هؤلاء الناس يطوفون بالقبور ويستغيثون بالأموات ولا يحرك ذلك عندهم ساكناً، وتكون هناك أمور جزئية وأمور فرعية يشتغلون بها ولا يلتفتون إلى هذا الوباء وهذا الضرر الكبير الذي يقع فيه كثير من المسلمين في كثير من أقطار الأرض، ومع ذلك لا ينبهون على هذه الأخطاء ولا يتكلمون فيها.
فالواجب هو التنبيه على ما هو أخطر، ثم بعد ذلك ينتقل إلى ما هو دونه، والذي يغفل الجانب الأعظم والجانب الأهم الذي هو التوحيد فإنه مثل الإنسان الذي يرى إنساناً فيه جرح ينزف ويرى فيه دمل في أحد أطرافه فيأتي ليعالج الدمل ويترك الجرح الذي ينزف على ما هو عليه مع أن ذاك يؤدي إلى الهلاك وهذا أمره أخف! فالواجب هو العناية بأصول الدين وفروعه كلها، ولا يجوز أن يقال: إن الدين فيه لباب وقشور، بل كله لباب، ولكنه متفاوت في الأهمية، فهذا اللباب ليس على حد سواء، بل هو متفاوت، وأهم شيء وأعظم شيء يدعى إليه وينبه عليه هو إفراد العبادة لله عز وجل والابتعاد عن معصيته وعن الشرك الذي هو محبط للذنوب والذي لا يغفره الله عز وجل وكل ذنب دونه فهو تحت مشيئة الله عز وجل.
وهذا الذي جاء في هذا الحديث تحت هذه الترجمة التي هي باب السواك، فيه بيان فائدة السواك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا الحديث الذي عند النسائي والمشتمل على أنه مطهرة للفم ومرضاة للرب.
والحديث يجر بعضه بعضاً، وقد دعا ذلك إلى أن نذكر المثال المناسب الموافق له، ثم بيان ما كان عليه عمر رضي الله عنه من الاعتناء بجميع أمور الدين، وأن هذا الذي يقال: إنه عندما ينبه الإنسان إنساناً يجر الثياب يكون هذا اشتغالاً بالقشور، هذا قول باطل، ثم ليتهم حين يتركون هذا يدعون إلى التوحيد أو ينبهون الناس على فضل التوحيد؛ وإنما يدعون إلى أمور أخرى هي شغلهم الشاغل، ولا يتكلمون إلا فيها في الليل والنهار! وقد انتهى أبو داود رحمه الله من الأحاديث المتعلقة بالاستنجاء والاستجمار وآداب قضاء الحاجة وما يتعلق بذلك، ثم انتقل إلى الطهارة وبدأ بالطهارة التي تسبق الوضوء وتعقبه سواء كان الإنسان على وضوء أو على غير وضوء قبل الوضوء وبعد الوضوء عند الوضوء وعند الصلاة، فكون الإنسان يستاك ليس له وقت معين، ولكنه جاء فيه ما يدل على استعماله في بعض الأحوال وفي بعض المناسبات مثل: عند الوضوء، وعند الصلاة، وعند القيام من النوم، وعند دخول المنزل، وكذلك عند تغير رائحة الفم، وفي مناسبات جاءت بها السنة.
وعلى كل حال السواك ليس له أوقات معينة، فيمكن الإنسان أن يستاك في أي وقت.
ثم أورد المصنف حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(لولا أن أشق على المؤمنين لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)]، وفي بعض الروايات: (لولا أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، وهذا يدل على أهمية السواك وأنه ينبغي استعماله وأن يحرص عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما منعه من أن يأمر به أمر إيجاب إلا خوفه من المشقة على الناس، لكن بقي الاستحباب وبقي الندب؛ لأن قوله: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك)، يعني: أمر إيجاب؛ وأما الأمر بالندب فموجود وقائم، ولكن الذي ما حصل هو الإيجاب، ولهذا استنبط بعض أهل العلم من هذا الحديث فائدتين أصوليتين إحداهما: أن الأصل في الأوامر الوجوب؛ لأن قوله: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم) فيه أنه لو لم يكن الأصل في الأمر الوجوب ما قال هذا رسول الله؛ لأنه لو أ