للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[شرح حديث (ما تعدون الصرعة فيكم)]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد عن عبد الله أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون الصرعة فيكم؟ قالوا: الذي لا يصرعه الرجال، قال: لا، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب)].

أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما تعدون الصرعة فيكم؟ قالو: الذي لا يصرعه الرجال) يعني: الذي يصرع الرجال ولا يصرعه الرجال، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب) يعني: هذا هو الصرعة في الحقيقة، وإن كان فيما يتعلق بقوة الجسم والنشاط والغلبة وكونه يغلب غيره هو صرعة أيضاً، ولكن الصرعة في الحقيقة الذي يملك نفسه عند الغضب، وقد جاء في بعض الروايات: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) يعني: الذي يقدر على أن يملك نفسه وهو الذي يكظم غيظه كما مر قريباً، فيتحمل ويصبر ولا يندفع عند الغضب فيسترسل ويحصل منه أمور لا تحمد عقباها سواءً كانت قولية أو فعلية.

فالصحابة رضي الله عنهم لما سألهم قالوا: الذي يصرع الرجال، يعني: أنه قوي، فالرسول صلى الله عليه وسلم بين أن الصرعة على الحقيقة -وإن كان ذاك صرعة-: (الذي يملك نفسه عند الغضب)؛ ولذلك جاء في بعض الروايات: (ليس الشديد بالصرعة) يعني: ليس الشديد بالصرعة في الحقيقة، وإن كان هو صرعة، (ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)، فهذا هو الصرعة في الحقيقة.

وهذا من جنس بعض الألفاظ التي تأتي والمقصود بها بيان من هو المتصف بهذا الوصف على الحقيقة، كقوله صلى الله عليه وسلم: (ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، والأكلة والأكلتان، وإنما المسكين الذي لا يجد غنىً يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه) يعني: هذا هو المسكين حقاً؛ لأن الذي يمد يده هذا وإن كان مسكيناً إلا أنه حصل شيئاً عن طريق مد اليد، لكن المسكين على الحقيقة الذي ليس عنده شيء يأكله، ولا يمد يده للناس، ولا يفطن الناس له فيتصدقون عليه، فيبقى في قلة ذات يد، ويبقى غير واجد لما يحتاج إليه، هذا هو المسكين حقاً، فهذا من جنسه.

وكذلك قوله: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس عندنا الذي لا درهم له ولا متاع)، فهذا هو مفلس في الدنيا فليس عنده درهم ولا متاع، ولكن المفلس في الحقيقة هو المفلس في الآخرة، ولذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام وحج، ويأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)، وكذلك ما جاء في الحديث: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها).

<<  <  ج:
ص:  >  >>