للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

شرح حديث سعد بن أبي وقاص (يا رسول الله! أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً شيئاً وهو مؤمن، فقال: أو مسلم)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن عبيد حدثنا محمد بن ثور عن معمر قال: وأخبرني الزهري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: (أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجالاً ولم يعط رجلاً منهم شيئاً، فقال سعد: يا رسول الله أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً شيئاً وهو مؤمن، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أو مسلم، حتى أعادها سعد ثلاثاً، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: أو مسلم، ثم قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إني أعطي رجالاً وأدع من هو أحب إلي منهم لا أعطيه شيئاً؛ مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم)].

أورد أبو داود حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جماعة فأعطى رجالاً ولم يعط رجلاً، وهذا الذي لم يعط شيئاً كان أعجبهم إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله! أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً وهو مؤمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلم)، أي: أنه يلقنه ويريد منه أن يقول: مسلم، فأعاد، فأعاد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بين السبب وأنه قد يعطي أشخاصاً وغيرهم أحب إليه من هؤلاء الذين أعطوا؛ ذلك أن هؤلاء الذين أعطاهم إنما أعطاهم تألفاً وترغيباً لهم في الإسلام، وخشية أن يحصل منهم نفور وعدم إقبال على الإيمان، فيترتب على ذلك أن يكبوا في النار على وجوههم، ولهذا فالنبي صلى الله عليه وسلم لما كان في غزوة حنين وحصلت الغنائم الكثيرة كان يعطي بعض المؤلفة قلوبهم الذين أسلموا حديثاً في عام الفتح؛ تأليفاً لقلوبهم، فحصل في قلوب الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم شيء؛ لكونهم لم يعطوا مثلما أعطي الناس، فجمعهم الرسول صلى الله عليه وسلم وتكلم معهم، وبين أنه إنما يعطي لغرض ويمنع لغرض، وقال: إنه لم يعطهم شيئاً لما عندهم من الإيمان، ثم قال لهم تلك الكلمات الجميلة التي هي أحسن عندهم من الدرهم والدينار ومن الإبل حتى فرحوا وسروا؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (الأنصار شعار، والناس دثار، لو سلك الناس وادياً وسلك الأنصار وادياً لسلكت وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت من الأنصار)، فسروا وفرحوا، فكان يعطي أناساً ولا يعطي أناساً آخرين فيعطي الذين لم يكن عندهم قوة إيمان، أو كانوا حديثي عهد بالإسلام، وكان يتألفهم، فلما قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (وهو مؤمن) قال له النبي عليه الصلاة والسلام: (أو مسلم)؛ وذلك لأن الإيمان درجة كاملة عالية، والإسلام أقل من ذلك فأراد أن يرشد إلى الأصل الذي يشترك فيه جميع المسلمين وهو أصل الإسلام، وأما الإيمان فهو أعلى وأكمل من أصل الإسلام، أخص من الإسلام، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً، فقد يكون عنده الاستسلام والانقياد، ولكن لا يكون الإيمان متمكناً من قلبه، ولهذا قال الله عز وجل عن الأعراب: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:١٤]، أي: لم يتمكن الإيمان في قلوبهم، ومعنى ذلك أن عندهم نقصاً وضعفاً، لكن عندهم الإسلام الذي هو الأصل، وأما الإيمان فهو شيء أعلى من ذلك، ولهذا فالإيمان أخص، والإسلام أعم، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ سعد: (أو مسلم) إشارة منه إلى الحد الذي ليس فيه تزكية، ولهذا كان الواحد من السلف إذا سئل: أنت مؤمن؟ يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أو يقول: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقوله: أنا مؤمن إن شاء الله ليس شكاً، ولكن بعداً عن التزكية، فهو مسلم، وأما الإيمان فهو كمال، فلا يدعيه لنفسه، ولا يزكي نفسه, ولكن يقول: أرجو، أو إن شاء الله، ولا يقول: أنا مسلم إن شاء الله، وإنما يجزم.

ثم إن لفظ الإيمان ولفظ الإسلام من الألفاظ التي إذا جمع بينها في الذكر فرق بينها في المعنى، وإذا انفرد أحدهما عن الآخر شمل المعاني التي افترقت عند الاجتماع، فإذا أطلق الإسلام شمل الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا أطلق الإيمان شمل الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا جمع بينهما فسر الإيمان بالأعمال الباطنة، والإسلام بالأعمال الظاهرة، كما في حديث جبريل لما سأله عن الإسلام قال: (أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)، وهذه أمور ظاهرة، وسأله عن الإيمان فقال (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)، وهذه أمور باطنة، فلما جمع بينهما في الذكر فرق بينهما في المعنى، فأعطى الإيمان ما يتعلق بالباطن، وأعطى الإسلام ما يتعلق بالظاهر، لكن إذا جاء لفظ الإسلام منفرداً مثل قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:١٩] وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:٨٥] فإنه يشمل الأعمال الظاهرة والباطنة، وهذا مثل لفظ الفقير والمسكين، فإنه إذا جمع بينهما في الذكر فسر الفقير بمعنى، والمسكين بمعنى، وإذا فصل أحدهما عن الآخر شمل معنييهما عند الاجتماع، فالله تعالى جمع بين الفقير والمسكين في آية تقسيم الصدقات: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:٦٠]، فلما جمع بينهما في الذكر فرق بينهما في المعنى، حيث فسر الفقير بأنه من ليس عنده شيء أصلاً، والمسكين بأنه الذي عنده شيء ولكنه لا يكفيه، فهو أحسن حالاً من الفقير، لكن إذا جاء لفظ الفقير مستقلاً فإنه يدخل تحته من ليس عنده شيء، ومن كان عنده شيء لا يكفيه، كما في حديث معاذ بن جبل (فإن هم أجابوك لذلك -أي: إلى الصلاة- فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)، فلفظ الفقراء هنا يشمل المساكين، وكذلك لفظ البر والتقوى، فإذا جمع بينهما فإن البر يفسر بالأوامر المطلوبة، وتفسر التقوى بالمنهيات، وأما إذا جاء لفظ البر لوحده، وجاءت التقوى لوحدها، فإن البر يشمل الأوامر والنواهي، والتقوى تشمل الأوامر والنواهي، أي: أن الإنسان يتقي الله عز وجل بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، وكذلك البر امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وقد جمع بينهما في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:٢].

فالخلاصة أن لفظ الإيمان والإسلام من جنس لفظ الفقير والمسكين، ومن جنس لفظ البر والتقوى إذا اجتمعا أو افترقا.

وأما مرتبة الإحسان فهي أكملها، وهي أعلى من الإيمان، وقد بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل بقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، فكما أنه لا يقال: كل مسلم مؤمن، فكذلك لا يقال: كل مؤمن محسن؛ لأن الإحسان أخص وأعلى من درجة الإيمان.

<<  <  ج:
ص:  >  >>