أورد أبو داود باباً في القدر، والقدر -كما جاء في حديث جبريل المشهور- من أصول الإيمان الستة، فقد سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال:(أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)، وكان جبريل قد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن بعض أمور الدين والصحابة يسمعون، وكان المقصود من ذلك أن يسمع الصحابة الجواب فيعلمون بذلك دينهم، ولهذا قال في آخر الحديث:(هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)، وقد جاء على صورة رجل غير معروف، والحديث سيأتي، وفيه أنه قال:(وتؤمن بالقدر خيره وشره).
وهذا من أصول الإيمان، والقدر هو سر من أسرار الله عز وجل في خلقه، لا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى، ولهذا لا يُتعمق في الأسئلة عنه؛ لأن التعمق فيه -كما قال بعض السلف- ذريعة الخذلان.
فعلى العبد أن يؤمن بما جاءت به النصوص، وأن يعلم أن الله سبحانه وتعالى حكيم في قدره، وحكيم في شرعه، وأنه تعالى يقدر الأمور لحكمة، كما أنه يشرع ما يشرع لحكمة، والإنسان في باب القدر يأخذ بما هو سائغ، فيأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى السعادة في الدنيا والآخرة، ويستعين بالله عز وجل على تحصيل ما يريد من الخير، ولا يعول على الأسباب ويغفل عن مسبب الأسباب، كما أنه لا يهمل الأسباب ويزعم أنه متوكل على الله، وأن الله إذا قدّر شيئاً فإنه سيأتي إليه وإن لم يفعل السبب، فكل هذا لا يسوغ، وإنما عليه أن يأخذ بالسبب، ويسأل الله أن ينفع به، كما جاء في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم:(المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله)، فأمر بهذين الشيئين، وهما: فعْل الأسباب، وأن يستعين بمسبِّب الأسباب وهو الله سبحانه وتعالى، فلا يأخذ بالأسباب ويغفل عن الله عز وجل، ويزعم أن هذه أمور مادية، فإذا وجد كذا وجد بسببه كذا هذا لا يصح؛ بل الأمر بيد الله عز وجل، فإذا شاء ألا يوجد المسبَّب لم يوجد، سواء وُجد السبب أو لم يوجد، فالإنسان يزرع ليحصل الزرع والفائدة، وقد يزرع ولا يحصل المقصود؛ لأنه قد تصيبه آفة، وقد يتزوج الإنسان لتحصيل الولد، ثم بعد ذلك قد لا يأتيه ولد مع أنه قد فعل السبب.
إذاً: لابد مع فعل السبب من التوكل والاعتماد على الله عز وجل، وسؤاله أن ينفع بالسبب.
وكذلك لا يهمل الإنسان السبب ويقعد في بيته ويقول: لا أبحث عن الرزق؛ لأنه لو كان الله قد كتب لي شيئاً فسيأتيني إلى بيتي ولو لم أخرج، فهذا أيضاً أمر لا يسوغ، بل على الإنسان أن يفعل السبب لكن لا يعتمد عليه، فليس السبب هو كل شيء، لذلك فإن التوكل الحقيقي هو الذي يكون فيه الأخذ بالأسباب، وأما التوكل بدون أخذ الأسباب فهو تواكل وليس بتوكل، وهذا مثل فعل الجماعة الذين كانوا يحجون ولا يأخذون زاداً ويقولون نحن المتوكلون، وإذا سافروا سألوا الناس، أو تحرّوا من الناس أن يحسنوا إليهم، وقد تركوا أموالهم في بلدانهم، فتصير حقيقتهم أنهم متأكلون، وليسوا بالمتوكلين، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:(لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً، وتروح بطاناً).
أي: أنها لم تجلس في أوكارها وتنتظر إلى أن يأتيها رزقها إليها، وإنما تراها إذا أصبحت خرجت من أوكارها خامصة البطون، (خماصاً).
أي: فارغة البطون، (وتروح بطاناً) أي: وترجع ممتلئة البطون، فهي قد أخذت بالأسباب، فعلى الإنسان أن يجمع بين الأمرين اللذين أرشد إليهما الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:(احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز)، ثم إذا فعل الإنسان ما يقدر عليه فلا يقل إذا فاته ما أراد:(لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن ليقل: قدر الله وما شاء فعل)، أي: أن هذا الذي وقع هو (قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان).
فلو أن إنساناً دخل في مشروع تجاري فلم يربح فيه فلا يقل: لو أني لم أدخل في هذا المشروع ودخلت في مشروع آخر لكان كذا وكذا، فيقال له: هذا الذي وقع هو الذي قدره الله عز وجل، ثم ما يدريك أنك إذا دخلت في المشروع الثاني أنه كان سيصير كذا وكذا؟ فكل ذلك غيب لا يعلمه إلا الله عز وجل، فعلى الإنسان أن يأخذ بالأسباب المشروعة ويستعين بالله سبحانه وتعالى.