قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما يؤمر به من القصد في الصلاة.
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل، وكان إذا عمل عملاً أثبته)].
أورد أبو داود هذه الترجمة: باب ما يؤمر به من القصد في الصلاة، والقصد: هو التوسط والاعتدال، وعدم الإفراط والتفريط، بحيث أن الإنسان لا يكون يقدم على العبادة في وقت من الأوقات فيكثر، ثم يهمل بعد ذلك، بل عليه أن يكون على قصد واعتدال، وأن يكون له صلاة يداوم عليها ولو كانت قليلة، لأن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل، كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن العمل القليل الذي يداوم عليه الإنسان خير من الكثير الذي ينقطع عنه الإنسان.
ويقولون:(قليل تداوم عليه خير من كثير تنقطع عنه) وذلك أن الإنسان إذا داوم على الشيء ولو كان قليلاً يكون مستمراً على عبادة، وعلى صلة بالله عز وجل، وإذا وافاه الأجل يوافيه وهو على حالة طيبة؛ لأنه مشتغل بالعبادة باستمرار، ولكنه إذا كان يقدم ويكثر من العبادة في أوقات، ثم يهمل في أوقات قد يأتيه الموت في وقت الإهمال، فلا يكون مثل هذا الذي يداوم على العمل وإن كان قليلاً، ولهذا يقول الله عز وجل في كتابه العزيز:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران:١٠٢]، فقوله سبحانه وتعالى:(وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) معناه: داوموا على الإسلام حتى إذا وافاكم الأجل يوافيكم وأنتم عليه، والإنسان لا يعرف متى يموت حتى يحسن حاله عند الموت، بل الموت يأتي فجأة، ولكن الإنسان إذا داوم على العبادة والفرائض، وداوم على شيء ولو كان قليلاً من النوافل فإن هذا هو الأولى، ولهذا قيل لـ بشر الحافي: إن أناساً يجتهدون في رمضان، فإذا خرج تركوا، فقال: بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان.
الله عز وجل يعبد في كل وقت وفي كل حين، فالإنسان يداوم على الشيء ولو كان قليلاً أولى من الإكثار من العبادة في وقت، ثم الإهمال بعد ذلك، ولهذا أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(اكلفوا من الأعمال ما تطيقون)، يعني: اعملوا الشيء الذي تطيقونه ولو كان قليلاً، فإن القليل المداوم عليه فائدته عظيمة، وصلة الإنسان بربه وثيقة، (فإن الله لا يمل حتى تملوا)، ففسر قوله:(فإن الله لا يمل حتى تملوا) بتفسيرات لعل من أقربها: أن الله لا يمل حتى لو مللتم، وقيل في معناه: أنه لا يمل من الثواب حتى تملوا من الأجر، وقد ورد في ذلك حديث ضعيف ذكره ابن جرير وأورده ابن كثير في تفسيره لسورة المزمل نقلاً عن ابن جرير، ولكنه حديث ضعيف، الذي فيه التنصيص على ذكر الثواب والعمل، ويبدو والله أعلم أن المقصود منه: أن الله لا يمل ولو حصل منكم الملل، حتى إن مللتم هو لا يمل.
(فإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل) ما كان مداوماً عليه ولو كان قليلاً؛ لأننا عرفنا الفائدة من وراء ديمة العمل، واستمرار العمر، ودوام العمل، وهو أن الإنسان على صلة بالله مستمرة، ولو كانت تلك العبادة قليلة التي هي النوافل، (أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل) فكان إذا عمل شيئاً أثبته، يعني: داوم عليه، كان عليه الصلاة والسلام يحب أن يداوم على الشيء الذي عمله، لأنه كان إذا عمل شيئاً أثبته، وقد عرفنا فيما مضى قريباً أن النبي صلى الله عليه وسلم شغل عن ركعتين بعد الظهر فصلاهما بعد العصر، ثم داوم عليهما، أي: على أنه يصلي ركعتين بعد العصر، وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم.