للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[شرح حديث (إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين)]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب تحريم حرم مكة.

حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي حدثني يحيى -يعني ابن أبي كثير - عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لما فتح الله تعالى على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيهم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنما أحلت لي ساعة من النهار، ثم هي حرام إلى يوم القيامة، لا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد، فقال عباس رضي الله عنه أو قال: قال العباس: يا رسول الله! إلا الإذخر فإنه لقبورنا وبيوتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إلا الإذخر).

قال أبو داود: حدثنا وزادنا فيه ابن المصفى عن الوليد: (فقام أبو شاه -رجل من أهل اليمن- فقال: يا رسول الله! اكتبوا لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اكتبوا لـ أبي شاه، قلت: للأوزاعي: ما قوله: اكتبوا لـ أبي شاه؟ قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)].

قوله: [باب تحريم حرم مكة].

هذه الترجمة فيها ذكر جملة من النصوص الدالة على تحريم مكة وأنها حرم، وقد جاء تحريم حرمين اثنين هما: مكة والمدينة، وليس هناك مكان ثالث حصل له ذلك الوصف الذي هو التحريم ووصف بأنه حرم إلا هذين المكانين مكة والمدينة، فمكة حرم والمدينة حرم وغيرهما لم يأت شيء يدل عليه، وإنما التحريم خاص بهذين البلدين المقدسين مكة والمدينة.

والترجمة تتعلق بتحريم حرم مكة، وقد جاء فيه أحاديث كثيرة أورد أبو داود منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس بعد أن فتح الله عليه مكة ودخلها فاتحاً، وكانت مكة فتحت عنوة وليس صلحاً بينه وبين المشركين، وقد دخل صلى الله عليه وسلم وعلى رأسه المغفر وخطب الناس وقال: (إن الله حبس عن مكة الفيل) كما جاء في سورة الفيل.

قوله: (وسلط عليها رسوله والمؤمنين) يعني: مكنهم من ولايتها والتغلب على أهلها.

قوله: (وإنما أحلت لي ساعة من النهار) وفي بعض الأحاديث: (وقد عادت حرمتها باليوم كما عادت حرمتها بالأمس).

قوله: (ثم هي حرام إلى يوم القيامة لا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها) يعني: أنه لا يزعج صيدها ولا يجوز شيء يزعجه وينفره ويجعله يشرد، وإنما هو آمن ومن دخله كان آمناً، وإذا كان التنفير ممنوعاً منه فإن القتل من باب أولى، فلا يقتل الصيد، مثل ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه فيما يتعلق بحرم المدينة قال: (لو وجدت الظباء ترتع لما نفرتها أو لما زجرتها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المدينة حرم)، والله عز وجل جعل الصيد إذا دخل مكة وكذلك المدينة آمناً، وجعل له من الغذاء ما يتغذى به حيث حرم قطع الشجر وقطع النبات حتى يكون ذلك الصيد عندما يدخل المكان الآمن عنده قوته وعنده الشيء الذي يرعاه، ولو قطع الشجر وصارت الأرض جرداء فإن الصيد لا يبقى، وإنما يذهب يبحث عن الرعي ويذهب عن القوت والطعام، فجاءت الشريعة بكون الصيد يكون آمناً وبكون قوته يكون موجوداً عنده.

قوله: (ولا تحل لقطتها إلا لمنشد) أي: لمن يستمر على التعريف بها، وذلك أن اللقطة إذا فقدت في مكة فإن مكة يتردد عليها الناس للحج في كل عام، ولذلك ميزت على غيرها لقطتها لا تكون كلقطة غيرها بأن تعرف ثم يستفيد منها من عرفها، بل إنها تعرف دائماً، وذلك أن صاحبها قد يأتي في حجة أخرى أو في حجة ثانية أو ثالثة وهكذا، فلا تملك لقطتها أو لا يستفاد من لقطتها كما يستفاد منها في الأماكن الأخرى غير مكة.

قوله: (قال العباس: يا رسول الله! إلا الإذخر).

يعني: هذا تلقين استثناء، يريد أن يستثني من ذلك الإذخر.

قوله: (فإنه لقبورنا وبيوتنا) يعني: لبيوتهم؛ لأنه نبت له رائحة طيبة ويجعلونه في البيوت بحيث يسقفونها به، وكذلك في قبورهم يجعلونه بين اللبن بحيث لا ينزل التراب والرمل على الميت في لحده، فقال عليه الصلاة والسلام: (إلا الإذخر) فدل هذا على أن الإذخر مستثنى، وأنه يجوز قطعه كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله: [(فقام أبو شاه -رجل من أهل اليمن- فقال: يا رسول الله! اكتبوا لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لـ أبي شاه)] المقصود بذلك كتابة هذه الخطبة التي سمعها، فأراد أن تكتب له حتى تكون معه، وحتى يذهب بها إلى أهله في اليمن، وهذا الحديث يدل على أن مكة حرم حرمها الله عز وجل، وقد جاءت الأحاديث في تحريم المدينة.

ويدل هذا الحديث أيضاً على أن فتح مكة كان عنوة، وأنه ليس صلحاً بينه وبين الكفار، وأن هذا الحل الذي حصل له صلى الله عليه وسلم مستثنى، وأنها بعد ذلك ستعود حرمتها كما كان قبل ذلك؛ فحرمتها مستمرة إلى يوم القيامة ولا يستثنى من ذلك إلا تلك الساعة التي أحلها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.

ويدل أيضاً على أن الاستثناء ليس بلازم أن يكون مقصوداً عند أول الكلام، بل إذا ذكِّر به المتكلم أو لفت النظر إليه في الحال ثم أتى به فإنه يمكن، ومثل الاستثناء اليمين، لو أن إنساناً حلف وقيل له: قل: إن شاء الله فقال: إن شاء الله، فإنه يكون مستثنياً، وإن لم يحصل ذلك منه عند بداية النطق بذلك، فإن هذا الحديث يدل على نفع الاستثناء في مثل هذه الحال.

ويدل الحديث أيضاً على كتابة العلم، وقد جاء في بعض الأحاديث النهي عن كتابة الحديث في أول الأمر؛ وذلك لما كان يخشى من اختلاطه بالقرآن، ولكنه بعد ذلك رخص فيه، وهذا الحديث يدل على الترخيص، وقد قال أبو هريرة عن عبد الله بن عمرو: إنه كان يكتب ولا أكتب، ثم بعد ذلك اتفق العلماء على استحباب كتابة العلم، وأن ذلك أمر مطلوب؛ وذلك أن القرآن قد حفظ وميز عن غيره فلا يكون هناك التباس بين القرآن وبين غيره، فاتفق العلماء على استحباب كتابة العلم وعلى الاشتغال بالعلم كتابة وحفظاً.

قوله: (ولا يعضد شجرها).

العضد هو القطع، والشجر الذي يعضد هو الذي أنبته الله عز وجل، وأما الشيء الذي ينبته الناس لأنفسهم فإنهم يستفيدون منه ويستعملونه ولا يمنعون منه، أما الشيء الذي أنبته الله تعالى فكما أسلفنا -والله أعلم- أنه منع منه ليكون قوتاً للصيد الذي إذا دخل الحرم كان آمناً.

وكون الإنسان يذهب بإبله لترعى في الحرم يبدو أنه غير سليم؛ لأن هذا يؤدي إلى إزالة النبات من الحرم، لكن إذا كانت الإبل انفلتت من نفسها وأكلت فهذا شيء آخر، وأما كون الإنسان يقصد ويتعمد الرعي في الحرم فهذا وسيلة إلى تخلية الحرم من النبات، ويكون الصيد الذي يدخل الحرم ويكون آمناً لا يجد شيئاً يقتاته ويأكله.

قوله: (ولا تحل لقطتها إلا لمنشد) يعني: الشيء اليسير التافه مثل الريال والريالين والسكين والمقص وما إلى ذلك من الأشياء التافهة، فهذه يأخذها الإنسان ولا تحتاج إلى تعريف، وإنما الشيء الذي له شأن وله وزن في النفوس هذا هو الذي يوصف بأنه لقطة تنشد، وإذا كانت في غير الحرم فتعرف لمدة سنة ثم يستفيد منها صاحبها الذي عرفها، أما في الحرم فتعرف دائماً.

<<  <  ج:
ص:  >  >>