للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[شرح أثر كيفية قسمة عمر للفيء]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمود بن خالد حدثنا محمد بن عائذ حدثنا الوليد حدثنا عيسى بن يونس حدثني فيما حدثه ابن لـ عدي بن عدي الكندي أن عمر بن عبد العزيز كتب: أن من سأل عن مواضع الفيء فهو ما حكم فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فرآه المؤمنون عدلاً موافقاً لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (جعل الله الحق على لسان عمر وقلبه)، فرض الأعطية للمسلمين، وعقد لأهل الأديان ذمة بما فرض عليهم من الجزية، لم يضرب فيها بخمس ولا مغنم].

أورد أبو داود هذا الأثر عن عمر بن عبد العزيز يحكي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وقال: من سأل عن مواضع الفيء يعني: المصاريف التي يصرف فيها.

فإنه كما حكم به عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فرآه المؤمنون عدلاً موافقاً لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أي: من سأل عن مواضع الفيء فجوابه أنه ما حكم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه، (فرآه المؤمنون عدلاً) يعني: هذا الذي حصل من عمر هو عدل من عمر، وهو موافق لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (جعل الله الحق على لسان عمر وقلبه) فهذا الذي حصل من عمر رضي الله عنه فيه سداد وتوفيق وإلهام، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أحد من أمتي فإنه عمر).

ومعلوم أن عمر رضي الله عنه وأرضاه حصل منه أمور عديدة يقال لها: موافقات عمر، وهي أنه يشير على النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر فينزل القرآن مطابقاً لما أشار به، ومن ذلك: اتخاذ مقام إبراهيم مصلى، وكذلك حجب نسائه صلى الله عليه وسلم، وكذلك عدم أخذ الفدية من أسارى بدر، وهي أمور متعددة حصل فيها موافقته للصواب، بحيث يشير على النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر فينزل الوحي مطابقاً لما أشار به عمر.

وكذلك أيضاً بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فإنه يرى الرأي ويجتهد الاجتهاد الذي يكون مطابقاً للحق، ومطابقاً لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أمثلة ذلك أنه لما ذهب إلى الشام في زمن خلافته، وكان الطاعون قد وقع في الشام، ففي أثناء الطريق لقيه أبو عبيدة وأمراء الأجناد، فقال له بعضهم: يا أمير المؤمنين! إن الطاعون وقع في الشام فلا تدخل بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطاعون فتعرضهم للفناء والموت، وبعضهم قال: ادخل ولا تفر من قدر الله، فكان من عمر رضي الله عنه أن طلب المهاجرين فجاءوا واستشارهم وانقسموا قسمين: بعضهم يقول: ادخل، وبعضهم يقول: لا تدخل، وارجع، ثم طلب الأنصار واستشارهم وانقسموا قسمين، بعضهم يقول: ارجع، وبعضهم يقول: لا ترجع، ثم اجتهد ورأى أن يرجع وقال: إني مصبح على ظهر يعني: إذا أصبحت فسأركب بعيري وأرجع إلى المدينة، وكان أبو عبيدة رضي الله عنه من الذين يرون الدخول وعدم الرجوع فقال له: أتفر من قدر الله يا أمير المؤمنين؟! فقال: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نفر من قدر الله إلى قدر الله.

وكان عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه معهم ولكنه كان غائباً في حاجة، ولما رجع وعلم بالذي حصل قال: عندي علم فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا وقع الطاعون وأنتم في بلد فلا تخرجوا فراراً منه، وإذا وقع وأنتم لستم فيه فلا تدخلوا عليه)، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فسر؛ لأن اجتهاده وقع مطابقاً لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فهذا الذي قاله عمر بن عبد العزيز رحمه الله عليه هو متفق مع ما جاء في الحديث الصحيح: (قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أحد من أمتي فإنه عمر)، وهذه النصوص التي ذكرتها هي شواهد على تسديده وإلهامه، وأن الحق يجري على لسانه وقلبه، ولكن هذا لا يعني أن كل مسألة يكون فيها خلاف فإن الحق يكون مع عمر، فقد يكون خلاف بينه وبين غيره ويكون الحق مع غيره، وذلك مثل مسألة الجد والإخوة، فـ أبو بكر رضي الله عنه يرى أن الجد يحجب الإخوة، وعمر يرى أنه يشارك الإخوة، وقول أبي بكر رضي الله عنه هو الأوضح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر)، ومعلوم أن الجد في جهة الأصول، والإخوة في جهة الحواشي، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (وما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر)، فإذا أخذ أصحاب الفروض فروضهم فمعنى ذلك أن الجد هو الأولى، وأن الإخوة لا يشاركونه، وهذا هو الذي يدل عليه هذا الدليل، ولكن كما هو معلوم فإن كثيراً من المسائل يكون الحق فيها مع عمر، ولكن لا يعني ذلك أن كل مسألة خلافية يكون الحق فيها مع عمر دون القول الآخر الذي يقابله.

وهذا الذي فعله عمر من وضع الأعطيات على الوضع الذي رآه هو عدل مطابق لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الحق يجري على لسان عمر) فهذا الذي فعله قد سدد فيه وألهم ووفق.

قوله: [فرض الأعطية للمسلمين، وعقد لأهل الأديان ذمة بما فرض عليهم من الجزية].

فرض الأعطية للمسلمين وكان ذلك بتدوين دواوين، ليعرف من أعطي ومن لم يعط، وكل الناس عند التوزيع يرجعون إلى هذه السجلات التي فيها أصحاب هذه الأعطيات.

وعقد لأهل الأديان ذمة بما فرض عليهم من الجزية، أي: أنهم يبقون في ذمة المسلمين، ويؤدون الجزية التي أوجبها الله تعالى عليهم.

قوله: [لم يضرب فيها بخمس ولا مغنم] أي: الجزية لم يضرب فيها بخمس ولا مغنم، وإنما هي كلها في مصالح المسلمين، لا تخمس، ولا تكون غنيمة، وإنما هي مال أفاءه الله عز وجل على المسلمين، فيكون في مصالحهم عموماً.

<<  <  ج:
ص:  >  >>