الأئمة الأربعة كان في زمانهم وقبل زمانهم وبعد زمانهم علماء مجتهدون ومتمكنون في الفقه، مثل: سفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه، والأوزاعي، والليث بن سعد المصري، وعلماء كثيرون معروفون ومشهورون بالفقه، ولكن اشتهر الأئمة الأربعة؛ لأنه حصل لهم تلاميذ عنوا بجمع أقوالهم ومذاهبهم، واعتنوا بتنظيمها وترتيبها، بخلاف العلماء الآخرين، فإنه لم يحصل لهم مثل ما حصل لهؤلاء من التلاميذ الذين عنوا بأقوالهم وبما جاء عنهم؛ فاشتهرت تلك المذاهب، وهم أئمة هدى وأهل سنة، وهي مذاهب أهل السنة بخلاف المذاهب الأخرى كالزيدية والإباضية والهادوية، فإن هذه مذاهب أخرى غير مذاهب أهل السنة، أما هؤلاء الأربعة فهم على نهج واحد وعلى طريقة واحدة، فأصولهم متفقة من حيث العقيدة، وبالنسبة للفروع فهم مجتهدون، ومن أصاب الحق فإنه يؤجر أجرين، ومن أخطأه يؤجر أجراً واحداً؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:(إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد) وخطؤه مغفور.
والواجب هو احترام الجميع وتوقير الجميع ومحبة الجميع، والثناء عليهم، والاستفادة من علمهم، بدون غلو وبدون جفاء، والحق وسط بين الإفراط والتفريط وبين الغلو والجفاء، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن الإنسان يستفيد من علم الفقهاء ويعظمهم ويثني عليهم ويعرف قدرهم، ويستفيد منهم للوصول إلى الحق، فإذا وصل إلى الحق وعرف الدليل فإنه يجب عليه أن يأخذ به، وهذا هو الذي أوصى به الأئمة الأربعة، قال الإمام الشافعي رحمة الله عليه كما نقله عنه ابن القيم في كتاب (الروح): أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائناً من كان.
وكل واحد من الأئمة الأربعة قال: إذا جاء حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف قولي فخذوا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم واتركوا قولي.
وعلى هذا فإن احترامهم وتوقيرهم والاستفادة من علمهم هذا هو الذي ينبغي، وأما التعصب لهم أو الجفاء في حقهم فهما مذمومان، الجفاء مذموم، والغلو والتعصب مذموم، والحق وسط بين الإفراط والتفريط لا غلو ولا جفاء، نستفيد من علمهم، ونوقرهم، ونحترمهم، وندعو لهم، ونثني عليهم، لكن لا نتكلم فيهم بسوء، ولا نتجاوز الحد بحيث نغلو، يقول الخطابي رحمه الله: ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم ومعناه: أن الحق وسط بين الإفراط والتفريط، والاعتدال في الأمور والتوسط في الأمور هو المطلوب، وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب (الروح) عندما ذكر الرجوع إلى كتب الفقهاء، وأن الإنسان يستعين بهم للوصول إلى الحق، ويستفيد من علمهم ليصل إلى الحق: إن مثل هذا مثل الإنسان الذي يهتدي بالنجم حيث يكون في الفلاة، ولا يعرف جهة القبلة؛ فإنه يستدل إلى جهة القبلة بالنجوم وبمشرقها ومغربها، واتجاهات مجيئها وغروبها، فالإنسان يهتدي بها إلى جهة القبلة، ويستطيع أن يعرف الشمال والجنوب والشرق والغرب بواسطة النجوم، فإذا وصل الإنسان إلى الكعبة، وصار أمام الكعبة، فعند ذلك لا يحتاج إلى أن ينظر في النجوم من أجل تحديد جهة الكعبة، فإن الكعبة أمامه، وهكذا الإنسان يرجع إلى كلام الفقهاء ليستعين بهم للوصول إلى الحق، لكن إذا عرف الدليل فليس للإنسان أن يحيد عنه.
قال الإمام الشافعي رحمة الله عليه: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائناً من كان.
فلابد من الرجوع إلى كلام الفقهاء، ولا يستغني الإنسان عن كلام الفقهاء، والطالب يجمع بين الفقه والحديث، ولا يعنى بالحديث فقط ويغفل الفقه، ولا يعنى بالفقه فقط ويغفل الحديث؛ لأن الطالب إذا كان ليس له عناية بالفقه، وكل عنايته بالأحاديث وطرقها ورجالها وما إلى ذلك، فبعض المسائل الفقهية السهلة الخفيفة لا يستطيع أن يأتي لها بجواب؛ لأنه ما اشتغل بالفقه، ولو اشتغل بالفقه وأعرض أو انشغل عن الحديث فيمكن أن يستدل على مسألة من المسائل بحديث موضوع أو بحديث ضعيف جداً؛ لأنه لا يعرف الصحيح من غير الصحيح، فالأمر كما قال الخطابي رحمه الله في أول كتابه (معالم السنن): لابد من الحديث ولابد من الفقه.
والحديث إذا اعتني به بدون الفقه كالإنسان الذي يبني له بنياناً ويقوي أساسه، ولكن ما يبني عليها شيئاً؛ فهذا الأساس ما حصل منه فائدة ما دام أنه ما وجد بناء عليه، فهذا الأساس الذي قوي ومتن إذا ما وجد بناء عليه، وما وجد فروع تبنى عليه لا تحصل الفائدة المرجوة منه كما ينبغي، ولو أن إنساناً اشتغل بالفقه ولم يبنه على أساس الحديث، فهو كالذي يبني بنياناً على غير أساس، فينهار ويسقط، والكمال يحصل إذا كان الأساس قوياً متيناً، فيستفاد من الأساس ويستفاد من البناء، ولهذا لابد من الجمع بين الحديث والفقه، والعناية بالفقه والحديث.