[أهمية الحديث للفقه وأهمية الفقه للحديث]
ذكر أبو سليمان الخطابي في مقدمة كتابه معالم السنن: أن الناس انقسموا قسمين وصاروا حزبين: أهل خبر وأثر، وأهل فقه ونظر، وقال: إن كلاً منهم يكمل الآخر، ولا يستغني أحدهما عن صاحبه.
ثم ضرب لذلك مثلاً فقال: إن الذي يعتني بالحديث ولا يشتغل بالفقه ولا باستنباط المسائل من الحديث مقصر.
ويقابله الذي يشتغل بحصر مسائل الفقه والاشتغال بكلام فقيه من الفقهاء دون أن يرجع إلى كتب الحديث، ودون أن يرجع إلى الأدلة، فهذا أيضاً مقصر.
ثم قال: إن الحديث والفقه كأساس البنيان والبنيان، فمن عمل أساساً وأحكمه وأتقنه ولم يبن عليه لم يستفد منه.
قال: فهذا مثل من يعتني من الحديث بأسانيده ومتونه ولا يشتغل بفقهه وما يستنبط منه؛ لأن الناس متعبدون بالعمل بالحديث، والعمل بالحديث يأتي عن طريق الفقه والاستنباط.
ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) والمقصود من الحديث ومن السنن هو فقهها واستنباط ما فيها من أحكام حتى يعمل بها، ولهذا يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، يعني: يبصره ويعرفه بأمور دينه حتى يكون عارفاً بالحق عاملاً به داعياً إليه على بصيرة وهدى.
فمن يقوي الأساس ثم لا يبني عليه فروعه لا تحصل ثمرته، ومن اشتغل بمسائل الفقه دون أن يرجع إلى الحديث، ودون أن يبحث عن الصحيح والضعيف؛ فإنه يبني على غير أساس، فهو بنيان ضعيف معرض للانهيار؛ لأنه يستدل بحديث موضوع، فكل من الحديث والفقه لابد له من الآخر.
ولكن إذا جمع بين الأمرين فقد جمع بين الحسنيين، وعمل على تحصيل الأساس وتقويته ثم بنى عليه الفروع، فجمع بين الرواية والدراية، فهذا هو المطلوب.
ومن المعلوم أن المصيب في مسائل الاجتهاد واحد، وليس كل مجتهد مصيباً، ولو كان كل مجتهد مصيباً لحصل التناقض؛ لأن المختلفين في حكم يقول أحدهما: إنه حلال، ويقول الآخر: إنه حرام، وكيف يكون الشيء الواحد حلالاً حراماً في وقت واحد على وجه واحد، فمثلاً: بعض المسائل يختلفون فيها فيقول بعضهم: هذا يبطل الصلاة، ويقول غيره: هذا لا يبطل الصلاة، وهكذا: هذا ينقض الوضوء، ويقول الآخر: هذا لا ينقض الوضوء، فالمصيب واحد، والنبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى هذا في قوله: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد).
فالنبي صلى الله عليه وسلم قسم المجتهدين إلى قسمين: مصيب ومخطئ، والمصيب له أجران: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، والمخطئ له أجر الاجتهاد، والخطأ مغفور.
والفقهاء من الصحابة ومن بعدهم كل يؤخذ من قوله ويرد إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء كلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام فإنه لا كلام لأحد بعد ذلك.
ولهذا جاء عن الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمة الله عليهم أن كل واحد منهم حث على اتباع الدليل والأخذ بالسنن، وأنه إذا وجد له قول قد جاء حديث صحيح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام بخلافه، فإنه يؤخذ بالحديث ويترك قوله.
وقد قال الشافعي رحمة الله عليه: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائناً من كان.
هذه كلمة تتعلق بسنة الرسول عليه الصلاة والسلام وما ينبغي أن يكون عليه الإنسان وهو يطلب العلم من الجمع بين الفقه والحديث.