[شرح حديث: (أن تلبية رسول الله: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك)]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: كيف التلبية؟ حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، قال: وكان عبد الله بن عمر يزيد في تلبيته: لبيك لبيك لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل)].
أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: كيف التلبية؟ أي: كيف تكون التلبية؟ وما هي صيغتها؟ والتلبية: مصدر لبى يلبي تلبيةً، أي: أنه قال: لبيك اللهم لبيك! لبيك لا شريك لك لبيك، وهذه هي تلبية رسول الله.
وأورد أبو داود حديث ابن عمر أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لبيك اللهم لبيك! لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)، فهذه هي تلبية رسول الله عليه الصلاة والسلام التي كان يقولها، وكان ابن عمر يزيد على ذلك: (لبيك لبيك لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل)، وجاء -كما سيأتي- أنهم كانوا يزيدون والنبي عليه الصلاة والسلام يسمع ولا ينكر عليهم، فدل هذا على جواز ذلك، ومعلوم أن السنة: قول وفعل وتقرير، ولكن الأولى هو الاقتصار على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وكلمة (لبيك) معناها: إجابة بعد إجابة، فيؤتى بكلمة لبيك في الإجابة، فالإنسان إذا نودي فإنه يقول: لبيك، وقد كان معاذ بن جبل رديفاً للنبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ! فقال له: لبيك يا رسول الله!) وكرر ذلك، فكلمة (لبيك) هي جواب، وهو جواب حسن ممن ينادى، وأصل ذلك أن الله عز وجل دعا الناس إلى حج بيته الحرام، فمن وفقه الله عز وجل لأن يأتي إلى هذه العبادة، فإنه عندما يلبس لباس الإحرام، ويدخل في النسك، يلبي بهذه التلبية فيقول: لبيك اللهم لبيك! أو يقول: لبيك عمرة، أو لبيك عمرة وحجة، أو لبيك حجة، فمعنى قوله: لبيك، أنك دعوتني فأجبتك، فلبيك اللهم لبيك، إجابة بعد إجابة؛ لأن تكرار لبيك يعني تكرار الإجابة.
قوله: (لا شريك لك) أي: أنه بعد تكرار التلبية ذكر إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وكل عمل من الأعمال لا ينفع صاحبه إلا إذا كان خالصاً لوجه الله، ومطابقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالعمل المقبول عند الله لابد فيه من هذين الشرطين، فلا بد من تجريد الإخلاص لله وحده، وتجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يعبد إلا الله، ولا يعبد الله إلا طبقاً لما جاء به رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإذا اختل أحد هذين الشرطين فلا ينفع العمل، ويرد على صاحبه، فإذا فقد الشرط الأول وهو الإخلاص، فالعمل مردود، ولو كان العمل خالصاً لله ولكنه مبني على بدعة فإنه يكون مردوداً عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)، وقوله: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وقال: (وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).
ولا يكفي أن يقول الإنسان: هذا عمل طيب، وأنا قصدي حسن، فهذا الكلام لا ينفع، ولابد من هذين الشرطين: الإخلاص والمتابعة، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:١١٠]، قال بعض أهل العلم: العمل المقبول عند الله هو ما كان خالصاً صواباً، فالخالص ما كان لله، والصواب ما كان على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقوله: (لبيك لا شريك لك) توضيح وبيان أن العبادة لله وحده، وأن الحج يكون لله وحده، ولهذا فكلمة: لبيك لا شريك لك هي بمعنى: لا إله إلا الله، فلبيك هي بمعنى: (إلا الله)، ولا شريك لك: هي بمعنى (لا إله)، فلبيك لا شريك لك فيها نفي وإثبات، فهي تنفي العبادة عن كل ما سوى الله، وتثبتها لله وحده لا شريك له، وقول الملبي: لبيك لا شريك لك فيها خطاب لله تعالى، أي: أجيبك وأجيب دعوتك، ولا أشرك معك أحداً في العبادة، كما قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:١٦٢ - ١٦٣].
ثم بين بعد ذلك أن كل النعم من الله، وأن الحمد لله، وأن الملك لله، قال: (إن الحمد والنعمة لك والملك)، فالله تعالى هو المنعم بكل النعم ظاهرها وباطنها، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:٥٣] وقال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:٣٤]، فنعم الله تعالى لا تعد ولا تحصى، والنعم كلها من الله، ولو أنعم عليك أحد من الخلق وأحسن إليك فإنما حصل ذلك من الله عز وجل، كما قال عليه الصلاة والسلام: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف)، فالنعم كلها من الله، والله تعالى يجعل للنعم أسباباً تحصل بها، والكل من الله عز وجل، والحمد لله تعالى، فهو المحمود على كل حال، فهو صاحب النعمة والمتفضل بها، وهو المستحق للحمد، وهو أيضاً مالك الملك، وهو الذي بيده ملكوت كل شيء سبحانه وتعالى، ففي التلبية توحيد وثناء، فالتوحيد في قوله: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك)، والثناء في قوله: (إن الحمد والنعمة لك والملك) فكما أنه لا شريك لك في الملك، ولا شريك لك في الرزق، ولا في الإحياء، ولا في الإماتة؛ فلا شريك لك أيضاً في العبادة.
وقول ابن عمر رضي الله عنه في الزيادة: (لبيك لبيك لبيك وسعديك) كلمة (سعديك) هذه كلمة يؤتى بها معطوفة على لبيك، فلا تأتي لوحدها، وإنما تأتي معطوفة على سعديك، فهي كلمة تابعة لكلمة، وكلمة سعديك تضاف إلى الله عز وجل، ويخاطب بها الله سبحانه وتعالى، ومعناها: مساعدة منك بعد مساعدة، أو إسعاد منك بعد إسعاد، أي: لي.
وقوله: (والخير بيديك) أي: كل النعم هي من الله، والخير بيد الله، فهو الذي يجود ويتفضل على عباده، فالخير بيد الله يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء.
قوله: (والرغباء إليك) أي: الرغبة وطلب الحصول على الشيء إنما تكون إلى الله، فهي نوع من أنواع العبادة، فأنواع العبادة كثيرة منها: الدعاء والخوف والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة والإنابة والاستعانة والاستعاذة والذبح والنذر وغيرها، فيجب أن تكون أنواع العبادة كلها لله وحده لا شريك له، ولا يصرف أي نوع من أنواع العبادة لغيره، وهذا هو توحيد الألوهية، وهو توحيد الله تعالى بأفعال العباد، كالدعاء والنذر والخوف والرجاء وغيرها، وأما توحيد الربوبية فهو توحيد الله بأفعاله، فهو الخالق الرازق المحيي المميت، فهذه أفعال الله عز وجل.