للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[طريقة الإمام مسلم في تأليف صحيحه]

تلك كانت طريقة الذين رأوا الاختصار للأحاديث، وأما الذين لم يفعلوا هذا الفعل فلم يحصل منهم الاختصار ولا حصلت الرواية بالمعنى، وإنما حصل منه العناية بألفاظ الأحاديث والأسانيد، ومنهم الإمام مسلم بن الحجاج رحمة الله عليه، فقد اعتنى بإيراد الأحاديث بألفاظها وبأسانيدها ومتونها، دون أن يكون عنده اختصار أو رواية بالمعنى، بل يورد الحديث بتمامه وبلفظه.

وقد قال الحافظ ابن حجر في ترجمة الإمام مسلم: قلت: قد حصل للإمام مسلم حظ عظيم في تأليف كتابه، من حيث عنايته بجمع الروايات، وعدم تقطيع الأحاديث وتفريقها.

يعني: عدم الرواية بالمعنى.

ولا شك أن المحافظة على ألفاظ الحديث طريقة مثلى، والرواية بالمعنى جائزة، ولكن ينبغي أن تكون عندما لا يتقن اللفظ، أما إذا عرف لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم فلا ينبغي العدول عنه إلى الرواية بالمعنى، ولكن حيث يضبط المعنى ويعقل ولا يضبط اللفظ تأتي الرواية بالمعنى؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم إذا وجد بلفظه لا ينبغي العدول عنه ولا روايته بالمعنى.

وقد كان مسلم رحمه الله يترجم الكتب ولا يبوب تحتها أبواباً، ولهذا جاء بعض العلماء بعده وعملوا أبواباً لأنه في حكم المبوب، حيث جمع الأحاديث التي يتصل بعضها ببعض في مكان واحد فصاروا يضعون له أبواباً كـ النووي وغيره، ولهذا لما عمل النووي حاشية على صحيح مسلم ترك المتن كتباً وأحاديث بدون أبواب، ثم في الحاشية يأتي بذكر الأبواب؛ لأنها من صنعه.

فـ مسلم رحمة الله عليه أتى بكتاب الإيمان وهو أول كتاب عنده بعد المقدمة، وأول حديث في كتاب الإيمان هو حديث جبريل وقد ساقه بطوله دون اختصار، وهو الحديث المشهور: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد) إلى آخر الحديث، وفي آخره قال عليه الصلاة والسلام: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم).

الحديث أورده من طريق ابن عمر وكان جاء إليه اثنان من أهل العراق حاجين أو معتمرين، واكتنفاه فكان واحد عن يمينه وواحد عن شماله، وقالا له: لقد ظهر في بلدنا أناس يقولون بالقدر، ويقولون: إن الأمر أنف، فقال: إذا لقيت هؤلاء فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم مني براء، ثم قال: حدثني عمر رضي الله عنه وساق الحديث الطويل.

ومقصوده من إيراد الحديث قوله: (وتؤمن بالقدر خيره وشره)؛ لأنه أتى به دليلاً على البراءة من هؤلاء، وأنه على خلاف ما صاروا إليه.

إذاً أبو داود رحمه الله كـ البخاري وكـ النسائي وغيرهم من الذين يعددون التراجم، ويوردون الأحاديث على تلك التراجم، فيأتون بها في مواضع متعددة، وتكون مشتملة على محل الشاهد، وذلك من الاختصار للأحاديث.

<<  <  ج:
ص:  >  >>