[شرح حديث: (كانوا إذا أصابهم البول قطعوا ما أصابه البول منهم)]
[حدثنا مسدد قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد قال: حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الرحمن بن حسنة قال: (انطلقت أنا وعمرو بن العاص رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج ومعه دَرَقة، ثم استتر بها، ثم بال، فقلنا: انظروا إليه يبول كما تبول المرأة، فسمع ذلك، فقال: ألم تعلموا ما لقي صاحب بني إسرائيل؟ كانوا إذا أصابهم البول قطعوا ما أصابه البول منهم، فنهاهم، فعذب في قبره).
قال أبو داود: قال منصور عن أبي وائل عن أبي موسى رضي الله عنه في هذا الحديث قال: (جلد أحدهم) وقال عاصم عن أبي وائل عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (جسد أحدهم)].
أورد أبو داود رحمه الله حديث عبد الرحمن بن حسنة رضي الله عنه أنه قال: (انطلقت أنا وعمرو بن العاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج ومعه دَرَقة)، وهي: الترس الذي يتخذ للوقاية في الحرب، ويكون من الجلد قال: (فاستتر بها ثم بال، فقلنا: انظروا إليه يبول كما تبول المرأة)، يعني: تعجباً من هذا الفعل.
وهذا الذي قالاه -أو قاله أحدهما أو قاله أحد معهما- يحتمل أن يكون المراد به أنه جهل من قائله، أو أنه كان قبل إسلام عمرو وقبل إسلام عبد الرحمن بن حسنة وعند ذلك لا يكون هناك إشكال من حيث صدور هذه المقالة، والمذموم هو الكلام الذي فيه تشبيه الرسول صلى الله عليه وسلم في عمله -وهو يبول- بالنساء، وهذا أمر منكر؛ لأن الواجب هو أن كل ما يصدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على التمام والكمال، وهو أحسن حال وأحسن هيئة.
والرسول عليه الصلاة والسلام لما سمع ذلك قال: (ألم تعلموا ما لقي صاحب بني إسرائيل؟) يعني: بسبب الكلام الذي قاله لهم، ثم ذكر أنه عذب في قبره؛ لأنهم كانوا في شرعهم ودينهم أن الواحد منهم إذا أصابته نجاسة فإنه يقطع مكان النجاسة ولا يغسلها، وهذا من الأمور الشاقة التي كلف بها بنو إسرائيل وخففها الله عن هذه الأمة، فجعل ما تحصل فيه النجاسة يغسل بالماء، وأما أولئك فكانوا يقرضونه بالمقاريض ويقطعونه، وإذا أصابت الثوب نجاسة لا يغسلونه ولكنهم يقطعون القطعة التي عليها النجاسة ويرمونها، وهذا يتطلب منهم الاحتراز الشديد؛ حتى لا تفسد عليهم ثيابهم، إذ يلزمهم أن يقطعوها إذا أصابها شيء من البول أو شيء من النجاسة.
فكانوا يفعلون ذلك اعتماداً على ما في دينهم، فهذا الذي عبر عنه بصاحب بني إسرائيل نهاهم أن ينفذوا هذا الشيء الذي فيه مشقة عليهم، وقد جاء في دينهم وشرعهم، فُعذّب في قبره؛ لأنه نهاهم أن يفعلوا شيئاً هم مكلفون به ومطلوب منهم.
ففي قول الرسول صلى الله عليه وسلم هذا تنبيه إلى أنه إذا كان صاحب بني إسرائيل عذب في قبره بسبب ذلك، فإن الذي يحصل منه شيء يتعلق بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه قد يناله ما نال صاحب بني إسرائيل ووجد منه ما قد يكون سبباً في تعذيبه في قبره.
وفي هذا الحديث بيان أن من أسباب عذاب القبر الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف؛ لأن صاحب بني إسرائيل نهاهم عن شيء هو مشروع في دينهم، وأمر واجب عليهم في دينهم، فنهاهم أن يطبقوا ما جاء في دينهم، ولو كان في ذلك مشقة عليهم؛ لأن التكاليف لابد أن تنفّذ ولو كان فيها مشقة على النفوس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حُفّت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)، وهذه الأمة خفف الله عنها ما هو شديد مما كلفت به الأمم السابقة.
ولهذا جاء في حديث الإسراء: (لما أسري برسول الله عليه الصلاة والسلام وفرضت عليه وعلى أمته خمسون صلاة، ومر بموسى اقترح عليه ونصحه بأن يرجع ويطلب من الله التخفيف، وقال: إن بني إسرائيل كلفوا بشيء وما قاموا به) أي: أنه قد جرّب، فهو ينصح نبينا محمداً عليه الصلاة والسلام أن يطلب التخفيف؛ حتى لا يحصل لهذه الأمة من العجز عما كُلّفت به ويحصل منهم التقصير كما حصل من بني إسرائيل الذين كلفوا وما قاموا بما كلفوا به.
فالحديث يفيد أن من أسباب عذاب القبر مثل هذا العمل الذي فيه الاعتراض على الأحكام الشرعية والنهي عن تنفيذ ما جاء به الشرع؛ لأن ذلك الرجل نهاهم أن ينفذوا ما جاء في شرعهم فعُذّب في قبره.
[قال أبو داود: قال منصور عن أبي وائل عن أبي موسى في هذا الحديث قال: (جلد أحدهم)].
هذا الحديث جاء أيضاً من طريق أبي موسى وفيه قصة، وهذا مما حصل لبني إسرائيل من الآصار التي حُمّلوها وما فيها المشقة عليهم، والله تعالى خفف عنا ولم يكلفنا ما كلفوا به، وكان فيما جاء في حديث أبي موسى: (جلد أحدهم)، يعني: إذا أصابت النجاسة جلد أحدهم قطعه، وفسر الجلد بأنه الجلد الذي يلبس؛ لأنه كان مما يلبس: الجلود، وعلى هذا فالمقصود به: الجلد الذي يلبس، وفسر بأنه على ظاهره، وأن النجاسة كانت إذا أصابت جلد الإنسان فإنه يقطع أو يزيل هذه التي وقعت عليها النجاسة من جلده، ففسر بهذا، وفسر بهذا، ويكون هذا مما كلفوا به مما هو شاق عليهم.
ولهذا قال الله عز وجل في آخر سورة البقرة: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:٢٨٦]، فإن هذا يكون من الآصار التي كلفوا بها والتي خففها الله عز وجل عن هذه الأمة رحمة بها.
[وقال عاصم عن أبي وائل عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جسد أحدهم)].
ثم ذكر طريقاً آخر لحديث أبي موسى غير الطريق السابق وفيه بدل (جلد أحدهم): (جسد أحدهم)، ولكن قد جاء عند غير أبي داود من هذا الطريق: (ثياب أحدهم).
والشيخ الألباني جعل هذه الرواية التي هي ذكر الجسد ضعيفة، وكما ذكرت: جاء في بعض الأحاديث عند غير أبي داود من هذه الطريق: (ثياب أحدهم) بدل (جسد أحدهم).
ويحتمل أن يكون المقصود هو إزالة ما حصل من النجاسة من على الجلد، لا أن الجسد يقطع، بل تكون مثل الرواية السابقة، لكن الروايات التي جاءت وفيها ذكر الثياب تبين أن تلك هي المحفوظة أو المعروفة، وهذه تكون ضعيفة أو أنها تفسر بما فُسّرت تلك، أو تحمل على ما تقدم من ذكر الجلد، وأن المقصود به: أنه يزال كما يزال الجلد، ويراد بالجسد: الجلد، وليس المراد به جسد الإنسان بمعنى أنه يقطع ويمزق.
ومحتمل أن يكون المراد بجلد أحدهم: الجلد الذي يلبسه؛ لأنهم كانوا يلبسون الجلود، ويحتمل أن يكون جلده بمعنى: أن القطعة من جلد الإنسان التي وقعت عليها النجاسة يزيلها.
وفي ذلك شدة عليهم، وذلك يتطلب منهم أن يحذروا من أن يحصل منهم ذلك؛ حتى لا يحصل هذا الجزاء أو هذا الذي كُلّفوا به؛ لأن الإنسان إذا عرف أن جسده سيحصل له شيء بسبب ذلك فإنه سوف يحذر من أن يقع منه ذلك الذي يسبب قطعه أو يسبب إزالة الجلد.