للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[عموم قضاء الله وقدره وشموله]

قوله: [ولئن قلتم: لم أنزل الله آية كذا؟ ولم قال كذا؟ لقد قرءوا منه ما قرأتم، وعلموا من تأويله ما جهلتم].

أي: ولئن حصل من أحد منكم إيراد بعض الآيات التي قد يكون فيها اشتباه، ثم قلتم: لم كذا ولم كذا؟! فإنهم قد قرءوا هذا الذي قرأتموه، لكنهم قد علموا منه ما جهلتم، فهم تميزوا عنكم بأنهم علموا ما قد جهلتم، فأصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام -ومن سار على منوالهم - لا يضربون القرآن بعضه ببعض، ولا يأخذون بالمتشابه منه، وإنما يردون المتشابه إلى المحكم، والقرآن يصدق بعضه بعضاً، ويشبه بعضه بعضاً، ولا يضرب بعضه ببعض، ولا يُتبع منه المتشابه ويُترك المحكم، كما هي طريقة أهل الزيغ والضلال التي ذكرها الله في القرآن، والتي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمّى الله فاحذروهم).

فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرأوا القرآن، وعلموا ما فيه وفقهوا معانيه، وهؤلاء جهلوا.

قوله: [وقالوا بعد ذلك: كله بكتاب وقدر].

يعني: أنه مكتوب في اللوح المحفوظ، ومقدّر بقضاء الله وقدره، فكل هذا الذي يحصل ويقع، وكل ما هو كائن في الوجود فهو بقضاء الله وقدره، ولا يمكن أن يكون في الوجود شيء إلا وقد قدّره الله وقضاه.

قوله: [وكتبت الشقاوة].

أي: أن السعيد قد كُتبت سعادته، والشقي قد كتبت شقاوته.

قوله: [وما يقدر يكن].

أي: كل ما هو مقدر لا بد وأن يكون، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ويمكن أن يُعرف الشيء الذي قدره الله وقضاه بأمرين: أحدهما: الوقوع، فكل شيء قد وقع فإنه مقدر؛ لأنه لو لم يُقدّر لما وقع، فما شاءه الله كان.

الأمر الثاني: أن يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن أمر مستقبل، فخبره حق يجب تصديقه، ويجب اعتقاد أن هذا الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم لا بد وأن يوجد طبقاً لما أخبر به، وهذا الذي سيوجد هو شيء مقدّر، أي: أنه لا يوجد إلا شيء مقدر ولا يقع في الكون إلا ما قدّره الله، والرسول صلى الله عليه وسلم أخباره صادقة؛ لأنه يخبر عن الله، وهو لا ينطق عن الهوى، كما أخبر عن خروج يأجوج ومأجوج، والدجال، ونزول عيسى بن مريم، وغيرها من الأمور التي تقع في آخر الزمان، فإنها مقدرة وسبق بها القضاء والقدر، ومثل ما حصل من إخباره صلى الله عليه وسلم عن أمور قريبة من زمانه، وقد وقعت طبقاً لما أخبر به عليه الصلاة والسلام، مثل قوله عن الحسن وهو معه على المنبر - حيث كان الحسن صغيراً فحمله النبي صلى الله عليه وسلم - فقال: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)، وقد حصل ذلك بعد ثلاثين سنة من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، في عام (٤١هـ)، ووقع ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام، وعلى هذا فالمقدّر أمر من أمور الغيب، ولا يعلم ما قدّره الله وقضاه إلا هو سبحانه وتعالى.

قوله: [وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن].

هاتان الكلمتان فيهما بيان القدر، وأن كل شيء شاءه الله لا بد أن يكون، وكل شيء لم يشأه الله فلا يمكن أن يكون، كما قال الشاعر: فما شئتَ كان وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن أي: إذا شاء الإنسان شيئاً والله لم يشأه فلا يمكن أن يكون؛ لأن الذي يقع هو ما شاءه الله عز وجل.

قوله: [ولا نملك لأنفسنا ضراً ولا نفعاً].

هذا فيه إشارة إلى مخالفة ما عليه القدرية الذين يزعمون بأن العباد يخلقون أفعالهم، وأنهم يملكون لأنفسهم الضر والنفع! فإن هذا كلام باطل، وأهل السنة والجماعة يخالفونهم في ذلك؛ لأن كل شيء بيد الله عز وجل، فالناس يفعلون الأسباب ويحصل منهم الاكتساب، ولكن لا يقع إلا ما قدره الله وقضاه، وكل ما أرادوه إذا لم يشأه الله فإنه لا يقع، وما شاءه الله عز وجل لا بد وأن يقع، حتى ولو لم يشاءوه.

وهذا فيه إشارة إلى أن العبد لا يخلق فعله ولا ينفذه، وأن الله تعالى هو الخالق لكل شيء، والعبد مشيئته تابعة لمشيئة الله، كما قال الله عز وجل: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:٢٨ - ٢٩] فلا يمكن أن يوجد في ملك الله ما لم يشأه الله سبحانه وتعالى، وكل ما وقع فقد شاءه الله، ولا يمكن أن يقال: إنه قد وُجد شيء لم يشأه الله.

كما يزعم المعتزلة القدرية القائلين بأن العباد يخلقون أفعالهم، وأن الله تعالى لم يقدرها عليهم، وأن الله تعالى ما أرادها وما شاءها، وإنما هم الذي شاءوها وأوجدوها!! فقوله: (لا نملك لأنفسنا ضراً ولا نفعاً)، يعني: أن كل شيء بيد الله، وكل شيء بقضاء الله وقدره وبخلقه وإيجاده.

<<  <  ج:
ص:  >  >>