للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

شرح حديث (كنا نقول في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في التفضيل.

حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أسود بن عامر حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه قال: (كنا نقول في زمن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لا نعدل بـ أبي بكر أحداً، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم)].

يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في التفضيل]، أي: التفضيل بين الأشخاص، وأن هذا أفضل من هذا، ومعلوم أن التفضيل الذي يتعلق بتفاوت الناس في الدرجات عند الله عز وجل لا بد فيه من دليل؛ لأن هذا من الأمور الغيبية التي لا تعرف إلا بالدليل، كأن يأتي ذلك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، سواء كان من قوله أو من إقراره، وأما التفضيل بأمور تظهر كأن يكون فلان أعلم من فلان، أو بغير ذلك فهذا يمكن أن يعرف بالمشاهدة والمعاينة، كما جاء في حديث: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة)، فهذا يمكن أن يعرف.

وقد أورد أبو داود رحمه الله حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (كنا والنبي صلى الله عليه وسلم حي نخير فنقول: لا نعدل بـ أبي بكر أحداً ثم عمر ثم عثمان، ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم)، يعني: ما نقول: فلان أفضل من فلان، فهذا كان في زمنه صلى الله عليه وسلم وحياته، وأما بعد ذلك وبعد أن عرفت النصوص في التفضيل فإنه يتعين المصير إلى ما تثبت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن المعلوم أن الخلفاء الراشدين الأربعة رضي الله عنهم وأرضاهم هم أفضل من غيرهم، وهم خير هذه الأمة بعد نبيها، وترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، فهذا هو الذي تم ووقع، وهم جميعاً خلفاء راشدون بنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: (عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، وخلافتهم خلافة نبوة كما جاء ذلك في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء)، فأهل السنة والجماعة متفقون على أن ترتيبهم في الخلافة هو هذا الترتيب الذي وقع وحصل، ومن اعترض عليه، أو تكلم وقدح فيه فقد قدح فيما حصل من أصحاب رسول الله عليهم الصلاة السلام الذين هم خير هذه الأمة، والذين هم أحرص الناس على كل خير، وأسبق الناس إليه رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.

وأما بالنسبة للتفضيل فـ أبو بكر أفضل الصحابة ثم عمر ثم عثمان، وتقديم عثمان على علي هو المشهور عند أهل السنة والجماعة، وهو قول جمهورهم، وقد جاء عن بعض أهل السنة والجماعة أن علياً أفضل من عثمان، ولكن الذين يقولون بتفضيل علي على عثمان لا يقولون بأنه أحق وأولى منه بالخلافة، فقد جاء عن بعض السلف: أن من قدم علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار؛ لأن هذا اعتراض على ما حصل وجرى منهم من تقديم عثمان على علي رضي الله تعالى عن الجميع، فترتيبهم في الخلافة أمر متفق عليه بين أهل السنة، وإنما الخلاف فيما يتعلق بالتفضيل، ومن المعلوم أنه حتى على هذا القول الذي قاله بعض أهل السنة من أن علياً أفضل فإنه يجوز ويسوغ تولية المفضول مع وجود الفاضل، لكن الذي استقر عليه قول أهل السنة جميعاً هو أن عثمان رضي الله عنه أفضل من علي، وأن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في (العقيدة الواسطية): أن مسألة تقديم علي على عثمان ليست من المسائل التي يبدع فيها المخالف، فقد قال به جماعة من أهل السنة، وإن كان القول الصحيح خلاف ذلك القول، وهو ما عليه جمهور أهل السنة من تقديم عثمان على علي في الفضل، رضي الله عنهم وعن الصحابة أجمعين.

قوله: [(كنا لا نعدل بـ أبي بكر أحداً) أي: لا نقدم عليه ولا نسوي به أحداً، بل هو مقدم على غيره، والنصوص الكثيرة التي جاءت في بيان فضله وبيان عظيم قدره ومنزلته لا تخفى، ومن أوضحها وأشهرها الحديث الذي رواه جندب بن عبد الله البجلي وهو في (صحيح مسلم) قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول: (إني أبرأ إلى الله أن يكون منكم خليل، فإن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً)، فقد أخبر عليه الصلاة والسلام عن أمر لا يكون، وهو كونه يتخذ خليلاً من أمته، وأخبر أنه لو كان هذا الذي لا يكون فإن الذي سيكون أحق به، والذي سيظفر به هو أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وهذا يدل على فضله وعلى تقدمه على غيره، وكذلك ما جاء في تقديمه في الخلافة واتفاق المسلمين عليه، وقال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في حقه وفي حق خلافته: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)، وقال عليه الصلاة والسلام: لـ عائشة: (ادعي لي أباك وأخاك؛ لأكتب كتاباً، فإني أخشى أن يتمنى متمن أو يقول قائل، ثم قال عليه الصلاة والسلام: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر)، يعني: أن الذي يريد أن يكتبه سيتحقق وسيتم؛ لأن الله تعالى يأبى إلا أبا بكر، والمؤمنون يأبون إلا أبا بكر، وقد حصل هذا الذي أخبر به النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، وأبى الله إلا أبا بكر، وأبى المؤمنون إلا أبا بكر، فاتفق الصحابة والمسلمون على بيعة أبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسموه خليفة رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ورضي الله تعالى عن أبي بكر، وعن الصحابة أجمعين.

ثم يليه عمر في الفضل، وهذا متفق عليه، وهو أيضاً يليه في الخلافة، ثم عثمان رضي الله تعالى عنه، وقد عرفنا أن في ذلك خلافاً لبعض أهل السنة، وأن ذلك لا يؤثر، ولا يعتبر صاحبه مبتدعاً أو صاحب بدعة، وإن كان القول الحق خلاف ذلك، وهو تقديم عثمان رضي الله تعالى عنه على علي، فكون ابن عمر رضي الله عنه يقول: (كنا نخير ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي، فنقول: لا نعدل بـ أبي بكر أحداً ثم عمر ثم عثمان، ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم).

قال الخطابي: لعل الحديث محمول على الكبار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما من وراءهم فلا يشك بأن علياً رضي الله عنه هو الذي يلي عثمان، وأنه أفضل من غيره، ولكنه اقتصر على ذكر الكبار المتقدمين في السن، والذين لهم المنزلة والمكانة الرفيعة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أهل مشورته والمقربون إليه، وعلي رضي الله عنه كان دونهم في السن فليس من كبارهم، ولكن لا شك أنه هو خير أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام بعد الثلاثة: أبي بكر وعمر وعثمان.

ثم إن هؤلاء الأربعة الذين هم خلفاؤه الراشدون، والذين هم أفضل هذه الأمة كلهم لهم صلة مصاهرة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فـ علي رضي الله عنه له القرابة والمصاهرة، وأبو بكر وعمر قد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ببنتيهما، فتزوج عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر، والأخيران عثمان وعلي تزوجا من بنات الرسول صلى الله عليه وسلم، فـ عثمان رضي الله عنه تزوج ابنتين من بنات الرسول صلى الله عليه وسلم، وهما: رقية وأم كلثوم، ولذا فإنه يقال له: ذو النورين، وعلي رضي الله عنه تزوج بـ فاطمة، إذاً فكلهم أصهاره، وكلهم بمنزلة قريبة منه، فالأولان تزوج منهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخران تزوجا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين.

ومعنى أن خلافة هؤلاء الأربعة خلافة نبوة أنهم جاءوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فهم خلفاؤه، وقد جاء الحديث باتباع سنتهم، ثم يكون بعد ذلك ملك كما جاء في الحديث: (وبعد ذلك يؤتي الله ملكه من يشاء)، فمعنى ذلك: أن الخلفاء الراشدين هم الذين جاءوا بعده مباشرة، ومدتهم ثلاثون سنة، فـ أبو بكر له سنتان وأشهر، وعمر له عشر سنوات وأشهر، وعثمان له اثنتا عشرة سنة وأشهر، وعلي رضي الله عنه مكث قريباً من خمس سنوات، فهذه ثلاثون سنة، فخلافتهم خلافة نبوة، أي: أنهم جاءوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا خلفاء له، وقاموا بالأمر بعده خير قيام.

وقد ذكر شيخ الإسلام في (العقيدة الواسطية): أن رأي أهل السنة استقر على تفضيل عث

<<  <  ج:
ص:  >  >>