[شرح حديث (لا تتمنوا لقاء العدو)]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في كراهية تمني لقاء العدو.
حدثنا أبو صالح محبوب بن موسى أخبرنا أبو إسحاق الفزاري عن موسى بن عقبة عن سالم أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله -يعني: ابن معمر - وكان كاتباً له قال: كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه حين خرج إلى الحرورية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو قال: (يا أيها الناس! لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله تعالى العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قال: اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم)].
أورد أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة، وهي: باب في كراهية تمني لقاء العدو.
والمقصود من هذه الترجمة أن المسلم في حال جهاده للأعداء لا يتمنى لقاء العدو؛ لأنه قد تكون حاله عند تمني لقاء العدو غير طيبة، وذلك بأن يحصل منه ما لا ينبغي إما من عدم الصبر، أو من الفرار أو ما إلى ذلك.
فالمقصود من الترجمة أن الإنسان لا يتمنى لقاء العدو، فقد يكون هذا التمني فيه إعجاب بالنفس؛ فيترتب على ذلك الخذلان وعدم التوفيق من الله سبحانه وتعالى.
وقد أورد أبو داود حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية)، وهذا هو المقصود والشاهد للترجمة.
قوله: [(فإذا لقيتموهم فاصبروا)].
أي: إذا حصل اللقاء فعليكم بالصبر، وعليكم بالثبات.
قوله: [(واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)]، أي: أنهم عندما يلاقون العدو يصبرون ويثبتون، ويعرفون أنهم إذا قتلوا فإنهم شهداء، وأن مآلهم إلى الجنة.
قوله: [(وأن الجنة تحت ظلال السيوف)].
أي: أن المسلم إذا التقى بالكافر، ثم رفع الكافر سيفه عليه وصار تحته ظلال سيفه، فإذا وقع عليه ومات فإنه يكون شهيداً، والجنة تكون مأواه ومصيره، والمعنى: أنه إذا وقع القتل على أحد منكم من الكفار ومات بذلك فإنه يكون من أهل الجنة.
ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم)، وهذا دعاء يكون عند اللقاء جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه توسل إلى الله عز وجل بأفعاله، وأن الله تعالى ينصرهم ويؤيدهم ويهزم أعداءهم.
قوله: [(اللهم منزل الكتاب)].
المراد بالكتاب إما أن يكون الجنس، فيكون المراد به الكتب التي أنزلها الله على رسله الكرام، أو أن المراد به كتاب معين وهو القرآن، و (أل) في الحالتين إما للاستغراق وإما للعهد الذهني.
والاستغراق: هو أن اللفظ المفرد الذي يأتي محلى بالألف واللام يراد به العموم، أي: استغراق جنس الكتاب، ويأتي كثيراً في القرآن ذكر الكتاب باللفظ المفرد ويراد به الكتب، كما قال الله عز وجل: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:١٧٧] الكتاب المقصود به الكتب، وليس المقصود به كتاباً واحداً.
وكذلك قول الله عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} [الحديد:٢٥] أي: الكتب، الله ما أنزل على رسله كتاباً واحداً، وإنما أنزل عليهم كتبه.
وكذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقَِّ} [المائدة:٤٨] المقصود به القرآن {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة:٤٨] أي: من الكتب، فهنا جاء لفظ الكتاب ويراد به القرآن في الموضع الأول، ويراد به الكتب الذي هو جنس في الموضوع الثاني.
وكذلك قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:١٣٦] قوله (الكتاب الذي نزل على رسوله) هو القرآن (والكتاب الذي أنزل من قبل) أي: الكتب.
فهنا قوله: (منزل الكتاب) محتمل لأن يكون المراد به الكتب أي: الكتب المنزلة على المرسلين، أو أن المقصود به القرآن الذي هو منزل على نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
و (أل) تكون للعهد الذهني أي: الكتاب المعهود في الذهن، وهو القرآن، مثل قوله في أول سورة البقرة {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:١ - ٢] أي: الكتاب المعهود في الذهن الذي هو القرآن.
(ومجري السحاب) أي: يجريه في السماء ويسوقه حيث يشاء، فينزله في الموضع الذي أراد الله تعالى أن ينزل فيه، فيوجده بين السماء والأرض، ويسخره بين السماء والأرض، ويسوقه إلى حيث شاء الله تعالى أن ينزل فيه الماء، ويستفيد فيه من ينزل عليه.
(وهازم الأحزاب)، والأحزاب: المراد بهم الكفار على مختلف العصور والدهور، من لدن نوح، فكل ما حصل لهم من هزيمة فهي من الله عز وجل.
فتوسل إلى الله عز وجل بأفعاله، ثم النتيجة (اهزمهم وانصرنا عليهم)، فهذا فيه التوسل بين يدي الدعاء، والتوسل إلى لله عز وجل يكون بأفعاله أو بصفاته أو بأسمائه أو بربوبيته فكل ذلك سائغ، ومن التوسل بربوبيته لبعض المخلوقات التي لها شأن قوله: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل)، فإنه توسل إلى الله عز وجل بربوبيته لجبريل وميكائيل وإسرافيل.