للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[شرح حديث (أنه كان يقول عند مضجعه: اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم)]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا العباس بن عبد العظيم العنبري حدثنا الأحوص -يعني ابن جواب -حدثنا عمار بن رزيق عن أبي إسحاق عن الحارث وأبي ميسرة عن علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنه كان يقول عند مضجعه: اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم وكلماتك التامة، من شر ما أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت تكشف المغرم والمأثم، اللهم لا يهزم جندك، ولا يخلف وعدك، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، سبحانك وبحمدك)].

أورد أبو داود حديث علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، الذي يقول فيه: (كان يقول صلى الله عليه وسلم عند مضجعه: اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم).

يعني: كان يقول عند اضطجاعه وعند نومه: (اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم) وهذا فيه إثبات صفة الوجه لله سبحانه وتعالى.

وتأتي صفة الوجه في القرآن والحديث ويراد بها تلك الصفة، لكن لا يقال: إنها دائماً يراد بها نفس الصفة دون الموصوف، فإنه يراد بها الصفة والموصوف؛ ولكنه لا يقال: إن هذا عبارة عن الذات وليس لله صفة وجه، بل لله ذات متصفة بالصفات ومنها صفة الوجه، فإذا ذُكرت الصفة وذكرت الذات فلا بأس بذلك.

وأما أن تفسر الصفة بالذات، فهذا نفي للصفة، وهذا غير سائغ؛ لأن الذين يؤولون الصفات، يقولون: إنه يراد بالوجه الذات، ولا يثبتون لله وجهاً، وإنما يقولون: إنما عبر بالوجه عن الذات وإلا فليس لله وجه، لكن نقول: بل النصوص جاءت بذكر الوجه وأنه من صفات الله عز وجل.

وقول الله عز وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:٢٧] يعني: أن البقاء للذات والصفات ومنها الوجه، ولا يقال: إن البقاء للذات وأنه ليس لله صفة وجه، كما يقول بعض المفسرين في قوله تعالى: ((وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ)) أي: ذاته، فهذا يتأول ولا يثبت صفة الوجه، فهذه طريقة أهل التأويل وأهل التعطيل الذين لا يثبتون الصفات بل يتأولونها ويصرفونها عما تدل عليه إلى أمور أخرى مقتضاها عدم إثبات الصفة؛ لأنه كما يقولون: هذا مجاز، والمجاز يصح نفيه، فمعنى ذلك أنه ليس لله وجه على قولهم.

وأما إذا أثبت الوجه، وأثبتت الذات المتصفة التي من صفاتها الوجه، فكل ذلك حق، فقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:٢٧] يعني: ويبقى الله عز وجل بذاته وصفاته ومنها صفة الوجه وليس معنى ذلك أن البقاء للوجه وحده الذي هو الصفة دون الموصوف، بل للذات المتصفة بالصفات، ومنها صفة الوجه لله عز وجل.

قوله: [(وكلماتك التامة)] الكلمات يمكن أن تكون كلمات كونية، وأن تكون كلمات شرعية، والكلمات الكونية هي القضاء والقدر، الذي قدر الله عزّ وجل بأن هذه كلمات كونية، والكلمات الشرعية هي القرآن.

فكلمات الله تعالى الكونية تامة لا يتخلف شيء منها، وكلماته الشرعية تامة أيضاً، كما قال الله عز وجل: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:١١٥] أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي، فأخبارها صادقة وأحكامها عادلة.

وهناك من الكلمات ما تأتي لمعنى كوني ولمعنى شرعي، منها: القضاء، ومنها: الأمر، ومنها: الكتابة، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه (شفاء العليل) فصلاً خاصاً فيها، وذكر جملة منها وأدلة كل واحدة منها، سواء كانت كونية أو شرعية دينية.

وقوله عز وجل: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ} [هود:١١٩] يعني: الذي هو القضاء والقدر؛ لأن (كلمة) هنا بمعنى القضاء والقدر، فتأتي الكلمة بمعنى كوني، وتأتي بمعنى شرعي ديني.

قوله: [(ومن شر ما أنت آخذ بناصيته)].

يعني: كل شيء الله آخذ بناصيته، وكل شيء تحت قبضة الله عز وجل وتصرفه.

قوله: [(اللهم أنت تكشف المغرم والمأثم)].

المغرم: هو الغُرم، ومنه الدَيْن؛ وذلك بالتخليص منه والسلامة منه والإغناء حتى يتخلص الإنسان منه.

والمأثم هو ما يحصل به الإثم، فهو يدعو الله تعالى أن يكشفه ويزيله، وهو الذي يعفو عن السيئات، وهو الذي يسلم من أسباب الآثام.

قوله: [(اللهم لا يهزم جندك ولا يخلف وعدك)].

يعني: جندك هم الغالبون لا يهزمون، ووعدك نافذ لا يحصل له خلف.

قوله: [(ولا ينفع ذا الجد منك الجد)].

يعني: لا ينفع صاحب الحظ حظه عندك وإنما ينفعه عمله الصالح؛ لأن الحظوظ الدنيوية سواء كانت مالاً أو جاهاً أو غير ذلك لا تنفع عند الله عز وجل إلا إذا كان معها إيمان وتقوى واستقامة على طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

والجد هنا في الموضعين معناه الحظ والنصيب، فالجد هو فاعل ينفع، يعني: لا ينفع الجد صاحب الحظ، فهو قدم المفعول فيه على الفاعل، أي ولا ينفع صاحب الحظ حظه عندك.

وذُكر أن (من) بمعنى بدل، يعني: ولا ينفع صاحب الحظ حظه بدلاً منك، يعني: بدلاً من طاعتك، بل الطاعة هي التي تنفع و (من) تأتي بمعنى البدل في بعض المواضع كما في قول الله عز وجل: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} [التوبة:٣٨] يعني: بدل الآخرة.

وقوله: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء:٤٢] أي: من الذي يكلؤكم غير الرحمن أو بدل الرحمن؟! والجد يأتي بمعنى الجد الذي هو أبُ الأب وأبُ الأم، ويأتي بمعنى الحظ والنصيب، ويأتي بمعنى العظمة، كما قال الله عز وجل: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} [الجن:٣] يعني: تعالت عظمته وجلاله؛ وكذلك في دعاء الاستفتاح: (سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك) فهي هنا بمعنى العظمة.

وهو من الألفاظ التي تأتي لعدة معان، ويسمونها المشترك اللفظي؛ لأن اللفظ واحد ولكنه يطلق على عدة معان.

أما المشترك المعنوي فهو الاتفاق في المعنى مع التفاوت في اللفظ، فالإبصار يتفاوت الناس فيه، وكل من لا يكون أعمى فهو مبصر وإن كان بصره ضعيفاً جداً، يعني: فهم مشتركون في المعنى مع التفاوت فيه.

وأما المشترك اللفظي فإنه يطلق على كل واحد على حدة، هذا يطلق عليه جد، وهذا يطلق عليه جد، وهذا يطلق عليه جد، وقد يكون المشترك اللفظي من الأضداد مثل: عسعس، فإنه يطلق على (أقبل) وعلى (أدبر) وهما ضدان، وكذلك القُرء يطلق على الطهر وعلى الحيض وهما ضدان.

<<  <  ج:
ص:  >  >>