القدر -كما هو معلوم- لابد فيه من أمور أربعة، وهذه الأمور هي مراتب القدر، فيجب الإيمان بها كلها، أولها: علم الله عز وجل الأزلي، وهو أن الله علم أزلاً من قبل أن يخلق الخلق بأنه سيكون كذا وكذا وكذا، وكل شيء سيقع فالله تعالى قد علم بأنه سيقع، ولا يقع شيء في الوجود لم يكن الله تعالى قد علمه أزلاً، ولا يتجدد لله علم بشيء لم يكن معلوماً له أزلاً، بل كل ما هو كائن فقد علمه أزلاً، فعلم الله أزلي لا بداية له.
ثم أيضاً على العبد أن يؤمن بأن الله قد كتب مقادير الخلق في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كما جاء ذلك في الصحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لما خلق الله القلم قال له: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة)، فمعنى ذلك: أن كل شيء سيقع فقد كتب في اللوح المحفوظ، وهذه هي المرتبة الثانية.
والمرتبة الثالثة: أن من صفات الله عز وجل الإرادة والمشيئة، ومعنى ذلك: أن الله عز وجل شاء أن يحصل وأن يقع كذا، فيقع طبقاً لما شاء سبحانه وتعالى، والإرادة مثل المشيئة إلا أنها تختلف عنها بأنها قد تأتي لمعنىً شرعي، والمشيئة لا تأتي إلا لمعنىً كوني فقط، ولا تأتي لمعنى شرعي، فإطلاقاتها في الكتاب والسنة كلها تتعلق بالقدر والقضاء والمشيئة الكونية، وأما الإرادة فإنها قد تأتي لمعنى كوني فتكون مثل المشيئة، وقد تأتي لمعنىً شرعي ديني، وبذلك تخالف المشيئة، فهي تتفق معها في الكونية، وتختلف عنها بأنها تأتي لمعنى شرعي، أي: أن بينهما عموماً وخصوصاً مطلقاً، فيجتمعان في المعنى الكوني، وتنفرد الإرادة بأنها تأتي لمعنى شرعي لا تأتي فيه المشيئة.
وهناك ألفاظ أخرى تأتي بمعنى المشيئة، أي: تأتي لمعنى كوني ولمعنى شرعي وهي: الحكم والإذن والكتاب والكلمات والتحريم وغير ذلك، وقد عقد ابن القيم رحمه الله في كتابه (شفاء العليل) الذي يتعلق بالقدر فصلاً ذكر فيه ثلاثين باباً كلها تتعلق بمسائل القدر، وذكر من جملتها باباً يتعلق بالكلمات التي تأتي لمعنى كوني، أو لمعنى شرعي، مع التمثيل لها.
والفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية أن الإرادة الكونية لابد من وقوعها، وأما الإرادة الشرعية فقد تقع وقد لا تقع، وهي تكون فيما يحبه الله، وما لا يحبه الله، وذلك قد يحصل وقد لا يحصل، فهذا الذي شرعه وأمر الناس به -وهو محبوب له- منهم من امتثله، ومنهم من لم يمتثله.
وأما الإرادة الكونية فلابد من وقوعها، فالشيء الذي قدره الله وقضاه لابد أن يقع، فمن الناس من يستجيب لشرع الله فتجتمع فيه الإرادتان الكونية والشرعية، ومنهم من لا يستجيب، فتتحقق فيه الإرادة الكونية فقط، وهي أنه شقي لم يمتثل ما يحبه الله عز وجل، فما شاء الله عز وجل كان، وما لم يشأ لم يكن.
والناس يعرفون ما قدره الله وقضاه بأمرين: الأمر الأول: الوقوع، فكل ما وقع فإن الله قد شاءه؛ لأنه لو لم يشأه لم يقع، (ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك)، فالشيء المقدر لابد أن يوجد ولا يتخلف.
والمرتبة الرابعة: هي الخلق والإيجاد، أي: إيجاد الله عز وجل وخلقه للشيء الذي علمه أزلاً، وكتبه في اللوح المحفوظ، وشاءه وأراده، فيقع كما علمه وكتبه وشاءه، فهذه المراتب الأربع لابد منها في القدر.