[شرح حديث (أن النبي كان يقول إذا أوى إلى فراشه: اللهم رب السماوات)]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب ح وحدثنا وهب بن بقية عن خالد نحوه عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أنه كان يقول إذا أوى إلى فراشه: اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب كل شيء فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، زاد وهب في حديثه: اقض عني الدين وأغنني من الفقر)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (كان إذا أوى إلى فراشه قال: اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن) هذا تمهيد وتوسل إلى الله عز وجل بصفاته وأفعاله؛ ومن الأمور المطلوبة في الدعاء أن الإنسان عندما يدعو يتوسل إلى الله عز وجل بأسمائه وصفاته، أو بتقديم حمد الله والثناء عليه والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا من أسباب قبول الدعاء.
قوله: [(اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب كل شيء)] فكل هذا ثناء على الله عز وجل، فهو رب السماوات ورب الأرضين، ورب كل شيء، وهذا عام؛ لأنه يشمل السماوات والأرض، ويشمل غيرهما.
قوله: [(ورب كل شيء)] أي: رب السماوات والأرضين ومن في السماوات ومن في الأرضين من المخلوقات، فكلها أشياء، فهو ثناء على الله عز وجل وتعظيم له سبحانه وتعالى.
قوله: [(فالق الحب والنوى)] يعني: يفلق الحب لإخراج النبات منه، كما ينثر الحب عند الزرع في الأرض ثم تحرث الأرض ويسقى بالماء، فتنفتح الحبة وتنفلق ويظهر منها الزرع، وكذلك النوى عندما يكون في الأرض ويسقى بالماء فإن تلك النواة تنشق ويظهر منها أصل النخلة وتنشأ حتى تكون نخلة كاملة.
والحب هو ما يتعلق بالزرع، والنوى هو ما يتعلق بالنخل، والله عز وجل هو الذي أوجد هذا، وهو الذي بيده كل شيء سبحانه وتعالى، فلو شاء أن الحبة أو النواة لا تنفلق لم يحصل الانفلاق، وإذا شاء أن يحصل انفلاقها ويحصل نبات الزرع وخروج النخل من تلك النواة فعل ذلك؛ لأن كل شيء بيده ومشيئته، فإن شاء أن تحصل النتائج من وراء هذا السقي والزرع ظهرت، وإن شاء ألا تحصل الفوائد والنتائج حصل ما أراده الله وقضاه.
قوله: [(منزل التوراة والإنجيل والقرآن)] وهذه الثلاثة الكتب: التوراة المنزل على موسى، والإنجيل المنزل على عيسى، والقرآن المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وخصت هذه الكتب الثلاثة من بين الكتب المتقدمة؛ لأنها أشهرها وأهمها وأعظمها، وهي التي يأتي ذكرها كثيراً في القرآن، ولم يذكر القرآن كتباً أخرى سوى التوراة والإنجيل إلا صحف إبراهيم وموسى وإلا زبور داود عليه الصلاة والسلام، فصحف إبراهيم وموسى جاءت في موضعين: في سورة النجم، وفي سورة الأعلى، وزبور داود جاء في موضعين: في سورة النساء وفي سورة الإسراء، وأما التوراة فجاءت في مواضع كثيرة بلفظ الكتاب وبلفظ التوراة، وكتاب عيسى عليه الصلاة والسلام جاء بلفظ الإنجيل كثيراً في القرآن، والقرآن هو خير الكتب وأفضلها وخاتمها.
قوله: [(أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته)].
يعني: جاء المطلوب الذي مهد له بهذا التمهيد؛ لأن ما تقدم هو ثناء على الله عز وجل وتعظيم للوصول إلى ما يريده وما يطلبه من الله، وهو الاستعاذة بالله من كل ما فيه شر، فالله عز وجل هو آخذ بناصية كل مخلوق، وهو الذي بيده أمره وبيده التصرف فيه، وهو الذي يجعله يضر ويجعله لا يضر، ومن أعظم الوقاية من الضرر سؤال الله عز وجل ودعاؤه.
قوله: [(أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء)، وهذه أسماء أربعة من أسماء الله عز وجل قد جاءت في هذا الحديث، وقد جاءت في أول سورة الحديد.
وفيه أيضاً توضيحها وبيانها؛ لأنه قال: (أنت الأول فليس قبلك شيء)، فهو أول ليس قبله شيء، وكل شيء تابع له، وكل شيء عقبه، والأولية المطلقة إنما هي لله عز وجل، وكل من سوى الله كان عدماً فأوجده وخلقه بعد أن لم يكن، والله عز وجل هو الذي كان بلا بداية، وهو الذي يدوم بلا نهاية سبحانه وتعالى؛ ولهذا ذكر هذين الاسمين المتقابلين: الأول الذي ليس قبله شيء، ويقابله الآخر الذي ليس بعده شيء، وأنه الباقي الذي يدوم وغيره لا يدوم، وإن حصلت إدامة فإنما هي من الله عز وجل كما يكون في الجنة والنار وأهليهما، فإنه ليس لهما إلا العدم؛ ولكن الله عز وجل هو الذي شاء أن يحصل بقاؤهما، وأن يحصل استمرارهما، فبقاء الله عز وجل لازم لذاته، وأما بقاء الجنة والنار فهو مكتسب، والله تعالى هو الذي أكسبهما ذلك، ولو شاء أن ينهيهما لفعل سبحانه وتعالى.
قوله: [(وأنت الظاهر فليس فوقك شيء)] يعني: أن الله عز وجل ليس فوقه شيء؛ لأنه عالٍ على كل شيء، فله علو القدر وعلو القهر وعلو الذات، فهو عال فوق كل شيء قاهر له، وهو فوق كل شيء في المنزلة والنفوس، فلا يكون أحد مقدم عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله) ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم تابعة لمحبة الله، وإنما يُحَب غير الله وفقاً لما جاء عن الله، فيكون التفاضل بين الخلق بالمحبة لله والفضل، وكل ذلك راجع إلى ما جاء عن الله عز وجل من بيان التفاضل، ومن يكون أفضل ومن يكون أعظم محبة، وأن محبة الله عز وجل مقدمة على كل شيء، وكل شيء محبوب فإنما هو تابع لمحبته، سواء كان ذلك المحبوب أشخاصاً أو أفعالاً، فإنها تُحب من أجل أن الله تعالى شرعها ورغب فيها، ومن كانت له مكانة وله فضل فيحب لفضله ولتفضيل الله عز وجل إياه.
قوله: [(وأنت الباطن فليس دونك شيء)] يعني: أن الله عز وجل مطلع على كل شيء، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، ولكن ليس معنى ذلك أنه يكون حالاً في المخلوقات وأن المخلوقات تحويه، فالله أعلى وأجل من أن يحويه شيء مخلوق، بل هو مباين للمخلوقات؛ ولكن مع كونه عالياً على المخلوقات فإنه مطلع على كل شيء ولا يخفى عليه شيء ولا يحجب عنه شيء سبحانه وتعالى، بل كل شيء أمامه وتحت قهره ونظره وسمعه، لا يخفى عليه دبيب النمل في الظلام وعلى الصخور الصماء، ولا يخفى عليه دقيق ولا جليل، بل هو مطلع على كل شيء، وهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يعلم السر وما كان أخفى من ذلك.
زاد أحد الشيخين لـ أبي داود وهو وهب بن بقية الواسطي: [(اقض عني الدين وأغنني من الفقر)] يعني: أن الإنسان يدعو ربه أن يسلم من الدين، وأن يحصل له الغنى من الفقر، فيكون غنياً وإن لم يكن عنده غنى اليد، ولكن غنى النفس، وإذا كان غنى النفس موجوداً، فإن هذا هو الغنى الحقيقي، وإذا كانت النفس ليست غنية فلو كانت اليد مليئة فإنها تكون فقيرة، وتراها تبحث وتهتم وتشتغل بتحصيل على مزيد.