للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[شرح حديث قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه في بعثه الكتاب إلى قريش]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في حكم الجاسوس إذا كان مسلماً.

حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن عمرو حدثه حسن بن محمد بن علي أخبره عبيد الله بن أبي رافع -وكان كاتباً لـ علي بن أبي طالب - قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا والزبير والمقداد رضي الله عنهما فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ضعينة معها كتاب فخذوه منها.

فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالضعينة، فقلنا: هلمي الكتاب.

فقالت: ما عندي من كتاب.

فقلت: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب.

فأخرجته من عقاصها، فأتينا به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإذا هو من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه إلى ناس من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ما هذا يا حاطب؟! فقال: يا رسول الله! لا تعجل علي؛ فإني كنت امرأً ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها، وإن قريشاً لهم بها قرابات يحمون بها أهليهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ فيهم يداً يحمون قرابتي بها، والله -يا رسول الله- ما كان بي من كفر ولا ارتداد.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صدقكم.

فقال عمر رضي الله عنه: دعني أضرب عنق هذا المنافق! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم!)].

أورد أبو داود [باب في حكم الجاسوس إذا كان مسلماً] يعني: ماذا يفعل به؟ هل يقتل أو لا يقتل؟ والذي يظهر أن حكمه يرجع إلى الإمام، وأنه يرى ما فيه المصلحة، فإن قتله فله قتله، وإن أبقاه فله إبقاؤه، وقد أورد أبو داود حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قصة حاطب.

وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يغزو مكة عام الفتح أخفى الخبر عن الناس حتى لا يحصل اطلاع ومعرفة من الكفار بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم فيستعدون.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورى بغيرها إلا في غزوة تبوك فإنه أعلن أنه سيغزو الروم، وأمر الناس بالاستعداد وأمرهم بالنفير، وفي غيرها كان يوري حتى يخفى الخبر على الكفار الذين يريد أن يغزوهم صلى الله عليه وسلم.

وحصل من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه أنه كتب كتاباً إلى الكفار بمكة يخبرهم بشيء من خبر النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يريد أن يأتي إليهم وأنه يتهيأ لغزوهم، وأرسل بذلك مع ضعينة -امرأة- فذهبت بهذا الكتاب.

فالله تعالى أطلع نبيه على ذلك، فأرسل علياً ومعه الزبير والمقداد بن الأسود ليأتوا بذلك الكتاب الذي مع هذه المرأة، وقال: [(اذهبوا إلى روضة خاخ)] وهي مكان بين مكة والمدينة، وأخبرهم بأنهم سيجدون امرأة معها الكتاب فليأتوا به، فذهبوا وأدركوها في المكان الذي أخبرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من الغيب الذي أطلع الله نبيه عليه الصلاة والسلام عليه، والله تعالى يطلع من شاء من خلقه على ما شاء من غيبه، وقد أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على كثير من الغيوب، ولكنه لم يطلعه على كل غيب، فعلم الغيب على الإطلاق من خصائص الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} [النمل:٦٥] فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم متى تقوم الساعة، وقد جاء في حديث جبريل (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) وجاءت أحاديث كثيرة تدل على حصول أمور مغيبة لم يعلمها رسول الله عليه الصلاة والسلام، مثل العقد الذي كان لـ عائشة فقد مكثوا يبحثون عنه وكان تحت الجمل الذي تركب عليه عائشة، وكذلك في قصة الإفك ما كان صلى الله عليه وسلم يعلم الحقيقة، بل قال لـ عائشة: (إذا كنت ألممت بذنب فتوبي إلى الله واستغفريه) ومكث خمسين يوماً وهو حزين متألم، وبعد ذلك أنزل الله براءتها في آيات تتلى من سورة النور، فعلم عليه الصلاة والسلام أنها بريئة، وقبل ذلك ما كان يعلم أنها بريئة، بل كان يقول لها: (يا عائشة! إن كنت ألممت بذنب فتوبي إلى الله واستغفريه) وهجرها وذهبت إلى أهلها وحصل ما حصل، ولم يكن يعلم بذلك الغيب حتى أنزل الله عليه ما أنزل من القرآن الذي فيه براءتها رضي الله تعالى عنها وأرضاها.

فلما لحق الثلاثة بالمرأة قالوا: أخرجي الكتاب.

قالت: ما معي من كتاب.

فقالوا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب.

أي: نفتشك ونخرجه منك.

لأن الرسول أخبر بأنه معها، والرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما يقول، فإذاً الكتاب موجود، وقد أمروا بأن يذهبوا للإتيان به، فهددوها وأخبروها، بل ورد في بعض الروايات أنهم هددوها بالقتل، فأخرجته من عقاصها، قيل: إنه كان في رأسها.

وجاء في بعض الروايات أنه كان في حقوها، وجمع بينهما بأن قالوا: لعله كان في حقوها وربطته في طرف عقيصتها.

فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا بموضوعه من حاطب بن أبي بلتعة إلى كفار قريش يخبرهم ببعض خبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: [(ما هذا يا حاطب؟!)] فقال: لا تعجل علي يا رسول الله، والله ما بي -يا رسول الله- من كفر ولا ارتداد.

يعني: ما كنت باقياً على الكفر وأظهرت الإسلام نفاقاً مع أنني أبطن الكفر، ولا ارتددت بعد أن دخلت في الإسلام، فما خرجت منه إلى الكفر، فلست باقياً على الكفر وأظهرت الإسلام نفاقاً مع إبطان الكفر، وما دخلت في الإسلام ثم خرجت منه ورجعت إلى الكفر بالردة.

فقوله: [ما كان بي من كفر ولا ارتداد] معناه أنه ليس باقياً على الكفر مظهراً للإسلام نفاقاً كما هو شأن المنافقين الذين لما قوي الإسلام وظهر الإسلام أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، فهم كفار، وذلك لأن قلوبهم معقودة على الكفر وباقية على الكفر، ولكنهم أظهروا الإسلام خوفاً من المسلمين، كما قال الله تعالى عنهم: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:١٤] وقوله: [ولا ارتداد] يعني: ما دخلت في الإسلام ثم خرجت منه بالردة ورجعت إلى الكفر والعياذ بالله.

ثم بين سبب فعله بأن الموجودين في المدينة من المهاجرين لهم أقارب في مكة يحمون أهليهم وذويهم عندما يحصل الغزو، وقال: وأنا لست من أنفسهم، وإنما كنت ملصقاً بهم.

يعني: أنا حليف من حلفائهم ولست من أنفسهم، فأراد إذ فاته أن يكون منهم من يحمون من يكون قريباً له أن تكون له هذه اليد عندهم حتى يحموا قرابته.

فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: [(صدقكم)] فأخبر بأنه قد صدق، فقال عمر رضي الله عنه: [دعني أضرب عنق هذا المنافق] مع أن حاطباً قال: [ما كان بي من كفر] ومعناه: إني لست منافقاً باقياً على النفاق.

فـ عمر رضي الله عنه وأرضاه رأى أن هذا الفعل هو فعل من يظهر الإيمان ويبطن الكفر، فقال: [دعني أضرب عنق هذا المنافق].

فقال صلى الله عليه وسلم: [إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم!] فكونه من أهل بدر وكونه من الذين حصلت لهم تلك الفضيلة وتلك المنقبة، فنهايتهم طيبة، وما يحصل منهم فإنه مغفور لهم، ويكونون في الآخرة من أهل الجنة، فهذا يجعل حاطباً رضي الله عنه لا يؤاخذ بما فعل.

قوله: [فأخرجته من عقاصها].

العقاص هو ضفائر شعر رأسها.

قوله: [فقال: يا رسول الله! لا تعجل علي؛ فإني كنت امرأً ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها، وإن قريشاً لهم بها قرابات يحمون بها أهليهم بمكة].

المقصود بقوله: [وإن قريشاً] المهاجرون الذين في المدينة، فقد كان لهم قرابات يحمون قراباتهم، وأما أنا فليس لي قرابات، فلست مثل بقية المهاجرين، فأردت أن تكون هذه اليد التي أقدمها لهم تقوم مقام القرابة التي حصلت للناس الآخرين فيحمون قرابتي وأهلي هناك.

وقول عمر رضي الله عنه: [دعني أضرب عنق هذا المنافق] وإجابة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شهد بدراً فيه إشارة إلى جواز قتل الجاسوس؛ لأنه ما ذكر شيئاً يمنع منه إلا كونه شهد بدراً، ففهم منه أنه لو لم يكن عنده هذه المنقبة لكان أهلاً لأن يقتل، ولكن الذي حصل لهذا الرجل رضي الله عنه أنه شهد بدراً، وأهل بدر قد قال الله تعالى فيهم ما قال، وهذا يدل على أن أهل بدر نهاياتهم حسنة، وأن مآلهم إلى الجنة، وهم من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم مغفور لهم في الآخرة، لكن هذا لا يعني أن من وجب عليه منهم شيء في الدنيا لا يؤاخذ به ويسقط عنه.

بل لو فعل أمراً يستحق عليه حداً أو نحو ذلك فإنه يؤاخذ به، وإنما الكلام فيما يتعلق بالآخرة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>