للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[شرح حديث عمر بن الخطاب في رجم الزاني المحصن]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا هشيم حدثنا الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عبد الله بن عباس: (أن عمر -يعني ابن الخطاب رضي الله عنه- خطب فقال: إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا من بعده، وإني خشيت إن طال بالناس الزمان أن يقول قائل: ما نجد آية الرجم في كتاب الله؛ فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى، فالرجم حق على من زنى من الرجال والنساء إذا كان محصناً، إذا قامت البينة، أو كان حمل أو اعتراف، وايم الله لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله عز وجل لكتبتها)].

أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن عمر خطب الناس.

قوله: [(إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب)].

الحق الذي فيه إخراج الناس من الظلمات إلى النور، والسير إلى الله عز وجل على بصيرة، وذلك في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه، ثم قال: وأنزل عليه الكتاب.

قوله: [(فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها ووعيناها)].

(فقرأناها) يعني: إنا كنا تلوناها كما نتلو القرآن.

وآية القرآن هي: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم).

قوله: [(فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا من بعده)].

رجم النبي صلى الله عليه وسلم حصل لـ ماعز وللغامدية، وأمر برجم امرأة صاحب العسيف قال: (اغد يا أنيس! إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)، (ورجمنا من بعده)، يعني: هذا شيء فعله الرسول صلى الله عليه وسلم ونفذه الخلفاء الراشدون من بعده.

قوله: [(وإني خشيت إن طال بالناس الزمان أن يقول قائل: ما نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى)].

فهو أعلن هذا في خطبته رضي الله تعالى عنه حتى يسمعها من يسمعها من الناس، وحتى يكثر السامعون لها، ويتناقلوها ويعرفوها، ويرويها بعضهم ويبينوها للناس، قال: (أخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله)، وهذا من إلهام عمر رضي الله عنه فإنه كان ملهماً، وكان يقول الشيء فيجري الحق على لسانه في كثير من الأمور، وموافقات عمر في الأشياء التي يشير بها على رسول الله عليه الصلاة والسلام ثم ينزل القرآن بها معروفة وعديدة، منها ما يتعلق بالحجاب، ومنها ما يتعلق بالصلاة خلف المقام، ومنها ما يتعلق بأسارى بدر، وكذلك ما جاء عنه في قصة الطاعون الذي حصل في الشام، وأنه استشار الصحابة المهاجرين، ثم الأنصار، ثم مسلمة الفتح، وكل منهم ليست عنده سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، ثم إنه اجتهد ورأى أن ينصرف وألا يدخل على الطاعون، ثم بعد ذلك جاء عبد الرحمن بن عوف وروى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الذي رآه عمر مطابقاً لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر، وهنا قال: (أخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل) وقد قال قائل، فإنه نقل عن بعض الخوارج أنهم كانوا لا يقولون بالرجم ويقولون: إنه لا يوجد في كتاب الله.

قوله: [(أن يقول قائل: ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى)].

وهذا فيه أن ترك ما أنزله الله، وترك ما جاء عن الله وعن رسوله ضلال؛ لأنه قال: (فيضلوا بترك فريضة).

وفيه: أن الضلال يكون في الجزئيات وليس بلازم أن يكون الضلال في الكليات، بل القضية الواحدة يحصل بها الضلال؛ لأن فيه انحرافاً عن الجادة، وهذا من جملة الضلال الكثير الذي حصل للخوارج، فإنهم ضلوا في هذا الجانب وفي غير هذا الجانب.

قوله: [(فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى، فالرجم حق على من زنى من الرجال والنساء إذا كان محصناً، إذا قامت البينة أو كان حمل أو اعتراف)].

فالرجم حق على من زنى من الرجال والنساء وكان محصناً إذا قامت البينة، يعني: حق يجب تنفيذه إذا قامت البينة، والبينة هي أربعة شهود كما جاء ذلك مبيناً في القرآن، أو كان الحمل؛ لأن الحمل إذا كان من غير ذات زوج فإنه لا يكون إلا بغير طريق مشروع، لكن إذا لم تدع شيئاً أو تذكر شبهة، أو تذكر شيئاً يمنع من إقامة الحد عليها مما تدرأ به الحدود، كإخبارها بأنها كانت مكرهة، أو اغتصبت، أو أنه حصل لها كذا وكذا، فعند ذلك يقبل قولها، وتدرأ الحدود بالشبهات.

قوله: [أو الاعتراف]، يعني: يحصل الاعتراف بالزنا.

قوله: [(وايم الله لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله عز وجل لكتبتها)].

وهذا تأكيد من عمر رضي الله عنه لنزول هذه الآية، وأنهم تلوها، وأنها موجودة في كتاب الله ولكنها نسخت، ومعلوم أن القرآن جمع جمعتين: جمعة في عهد أبي بكر رضي الله عنه، وكان ذلك في صحف ولم يكن مرتباً ولا مميزاً، بل كل ما جاء ونقل أثبتوه في صحف، وكان مشتملاً على الأحرف السبعة كلها؛ لأن كل ما هو قرآن جمعوه في صحف، وذلك في عهد أبي بكر وحصل ذلك لما قتل جمع من القراء في بعض الغزوات، وأشير على أبي بكر بجمع القرآن فكان متردداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، ولكن بعد ذلك شرح الله صدره له فأمر بجمعه، فجمع في صحف، وذلك الذي جمع مشتمل على الأحرف السبعة، وبقيت تلك الصحف عند حفصة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها، ولما كان في عهد عثمان جمع القرآن في مصحف على حرف واحد، فصار هذا الذي هو بأيدي الناس، والذي هو من جمع عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وكان جمع الناس على حرف واحد، وأحرق ما سوى ذلك؛ حتى لا يحصل الاختلاف، وهذا من حسنات عثمان رضي الله عنه، كما أن الذي حصل في عهد أبي بكر من حسنات أبي بكر رضي الله عنه، ومن حسنات عثمان جمعه للقرآن، وكونه ممن حفظ الله به القرآن، وكان ذلك مما تحقق به قول الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:٩].

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتاب: اعلام الموقعين تسعة وتسعين على أن الشريعة جاءت بسد الذرائع، وختم ابن القيم رحمه الله الأدلة التسعة والتسعين بجمع عثمان رضي الله عنه القرآن على حرف واحد، وقال: إن ذلك فيه السلامة من الاختلاف، وقطع دابر الاختلاف الذي يكون بسبب وجود الأحرف، فجمعها على حرف واحد رضي الله عنه، وكان ذلك سداً للذريعة، فهو من جملة الأدلة التي استدل بها ابن القيم على سد الذرائع، وقد ذكر تسعة وتسعين دليلاً بعدد الأسماء الحسنى التي جاءت في الحديث: (إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة)، وختمها بهذا الدليل الذي هو جمع عثمان القرآن على حرف واحد.

فقول عمر رضي الله عنه: لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله عز وجل لكتبتها.

يعني: يريد أن يحقق ثبوتها، وأن هذا شيء ثابت.

<<  <  ج:
ص:  >  >>