[قراءة في رد الشيخ العباد على محمد فريد وجدي في إنكاره لأحاديث الدجال]
كتب الشيخ ابن محمود رحمه الله رسالة سماها: لا مهدي ينتظر بعد رسول خير البشر، وكان قد ألفها في أوائل عام ألف وأربعمائة عندما حصلت فتنة الحرم، وألف هذه الرسالة منكراً أنه لا مهدي، وأن الأحاديث فيه غير صحيحة، ورددت عليه في هذا الكتاب وهو: الرد على من كذب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي، وكان من جملة الذين ذكرهم منكرين لأحاديث المهدي محمد فريد وجدي، وقد ذكرت أن هذا الذي قلده قد أنكر ما هو أعظم من أحاديث المهدي، وهو أحاديث الدجال، حيث وصف أحاديث الدجال كلها بأنها موضوعة مختلقة مع أن الصحيحين فيهما الشيء الكثير من أحاديث الدجال، بل إن الدعاء الذي يدعو به الإنسان في آخر صلاته مشتمل على السلامة والاستعاذة من الدجال: أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال.
فالأحاديث فيه كثيرة ومتواترة، وهذا الرجل وهو محمد فريد وجدي أنكر في كتابه: (دائرة معارف القرن العشرين) هذه الأحاديث وقال: إنها كلها موضوعة ملفقة مكذوبة، وهي في الصحيحين ورجالها ثقات ليس فيهم ضعيف فضلاً عن أن يكون فيهم كذاب أو وضاع، والآن سنقرأ ما كتبته رداً عليه؛ لأنه ذكر أربع شبه في رد أحاديث الدجال وأنها موضوعة ومختلقة، وكلها شبه عقلية، وقد رددت عليه فيها استطراداً في الكلام على المهدي.
قلت: تقليده للكاتب محمد فريد وجدي في إنكار خروج المهدي، ومناقشة مقلده فيما هو أخطر من ذلك وهو: زعمه أن كل ما ورد في المسيح الدجال موضوع ملفق: ذكر في صفحة عشرين أن محمد فريد وجدي صاحب (دائرة معارف القرن العشرين) ممن ضعف أحاديث المهدي، ونقل كلامه في ذلك، وأحب أن يضيف الشيخ ابن محمود إلى معلوماته أن محمد فريد وجدي في كتابه المذكور في (٨/ ٧٨٨) اعتبر جميع الأحاديث الواردة في الدجال موضوعة، بناءً على شبه عقلية، وأكثر أحاديث الدجال في الصحيحين للبخاري ومسلم كما هو معلوم.
ومادام أن أحاديث الدجال على كثرتها في الصحيحين وفي غيرهما حظها من محمد فريد وجدي أن يبطلها بجرة قلم، ويحكم عليها جميعها بأنها موضوعة ملفقة، فمن باب أولى إبطال أحاديث المهدي؛ لأنها دونها في الكثرة والصحة، وقد يكون من المناسب هنا أن أناقش بإيجاز محمد فريد وجدي في شبهه العقلية الأربع التي اعتمد عليها في توهين أحاديث الدجال، وقال عنها: إنها لا تقبل المناقشة.
الشبهة الأولى: أن ما ورد بشأن الدجال أشبه بالأساطير الباطلة، فإن رجلاً يمشي على رجليه يطوف البلاد، يدعو الناس لعبادته، ويكون معه جنة ونار يلقي فيهما من يشاء، كل هذا من الأمور التي لا يستسيغها العقل، والنبي أجل من أن يأتي بشيء تنقضه بداهة النظر، وإلا فما هي جنته؟ وما هي ناره التي تتبعانه حيث سار؟ وهل هما مرئيان أو خياليان؟ إلى آخره.
ويجاب عن هذه الشبهة: بأن ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أخبار الدجال يقبله العقل السليم ولا يرده، والعقل لا يتعارض مع النقل الصحيح، وإذا لم يحصل الاتفاق والتطابق بين العقل والنقل على أمر ما تعين اتهام العقل، كما ثبت في الصحيحين عن سهل بن حنيف رضي الله عنه أنه قال: يا أيها الناس! اتهموا رأيكم على دينكم.
وكما جاء عن علي رضي الله عنه في سنن أبي داود -قال الحافظ في (الفتح): بسند حسن- أنه قال: لو كان الدين بالرأي لكان مسح أسفل الخف أولى من أعلاه.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى: العقول تتفاوت، فقد يقبل هذا ما لا يقبله هذا، وأحاديث الدجال الثابتة صدق بها الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وقبلتها عقولهم، وكذا التابعون لهم بإحسان، فالعقول التي لم تقبل ما قبلوه قد أصيبت بمرض لا شفاء لها منه إلا بالاعتصام بما جاء في الكتاب والسنة، والسير على ما درج عليه سلف الأمة.
ومن جهة ثالثة: هذه الأمور التي يأتي بها الدجال هي من جملة فتنته التي هي أعظم فتنة في الحياة الدنيا، وهي تحصل منه بإذن الله ابتلاءً وامتحاناً للعباد في ذلك الزمان، وهي غير مستحيلة عقلاً، وأما كونها على خلاف ما هو معتاد ومألوف فنعم، ومن أجل هذا صارت فتنة، ومن عرف أن الله على كل شيء قدير، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو الصادق المصدوق- الذي لا ينطق عن الهوى أخبر عن الدجال بهذه الأخبار التي منها: طوافه البلاد ودخولها ما عدا مكة والمدينة، ومعه جنة ونار، أقول: من عرف كمال قدرة الله وإخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذه الأمور لم يتردد في التصديق بذلك، وأنه سيقع وفقاً لما أخبر به صلى الله عليه وسلم.
الشبهة الثانية: قوله كيف يعقل أن رجلاً أعور مكتوب على جبهته كافر يقرؤها الكاتب والأمي على السواء، يقوم بين الناس فيدعوهم لعبادته، فتروج له دعوة، أو تسمع له كلمة، أي إنسان يبلغ به الانحطاط العقلي إلى درجة يعتقد فيه بالألوهية؟! رجل مشوه الخلقة، مكتوب في وجهه كافر بالأحرف العريضة، وأي جيل من أجيال الناس تروج فيهم مثل هذه الدعوة إلى آخره.
أقول: هذه إحدى شبهه التي اعتمد عليها في رد النصوص الصحيحة، ولا أدري كيف فات على هذا المسكين أن الأبصار لا تغني شيئاً إذا عميت البصائر، {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:٤٦]، وكيف ينكر النصوص المتواترة لأنه عقله استبعد أن تروج دعوة الدجال ويقبل قوله: وقد كتب على وجهه كافر يقرؤها الكاتب والأمي، مع وجود المثال المحسوس فيما نشاهد ونعاني في هذا العصر الذي نعيش فيه، فأكثر البلاد التي تنتمي إلى الإسلام لا تحكم بشريعة الإسلام، مع أن آيات القرآن ينادى بها بأعلى الأصوات، ومنها قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:٤٤].
وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:٤٥].
وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:٤٧].
وقوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٥]، وقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:٥٠].
إلى غير ذلك من الآيات، فإن الذين تروج عليهم دعوة الدجال في آخر الزمان فيتبعونه لعمى بصائرهم، مع أنه مكتوب على وجهه كافر يقرؤها الكاتب والأمي، هم من جنس الذين عميت بصائرهم في عصرنا، فلم يحكموا شريعة الإسلام مع قراءتهم القرآن، وفيه مثل هذه الآيات، وسماعهم لها في الإذاعات، وما أشبه الليلة بالبارحة، والله المستعان! الشبهة الثالثة: قوله: لماذا لم يذكر القرآن عن هذا المسيح الدجال شيئاً مع خطورة أمره، وعظم فتنته كما تدل عليه الأحاديث الموضوعة؟ فهل يعقل أن القرآن يذكر ظهور دابة الأرض، ولا يذكر ظهور ذلك الدجال الذي معه جنة ونار، ويفتتن به الناس؟ والجواب عن هذه الشبهة: أن الله تعالى قال في كتابه العزيز: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:٧].
وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) يعني: السنة، والسنة والقرآن متلازمان لا يفترقان، ومن لم يؤمن بالسنة لم يؤمن بالقرآن، ومن زعم فصل السنة عن القرآن يقال له كما جاء عن بعض السلف: أين وجدت في القرآن أعداد الصلوات، وأعداد ركعاتها، وكيفيتها وغير ذلك مما لا يعرف توضيحه وبيانه إلا في السنة التي هي شقيقة القرآن، والموضحة والمبينة له؟ ولم تعدم السنة منذ أزمان من أعداء لها هم في الحقيقة أعداء للقرآن، يشككون فيها، ويحاولون فصلها عن القرآن، وقد هيأ الله من العلماء من يذب عنها، ويدحض شبه أعدائها، ومنهم الحافظ السيوطي رحمه الله، فقد ألف رسالة لطيفة سماها: (مفتاح الجنة بالاحتجاج بالسنة)، افتتحها بعد حمد الله بقوله: اعلموا يرحمكم الله أن من العلم كهيئة الدواء، ومن الآراء كهيئة الخلاء، لا تذكر إلا عند داعية الضرورة، وإن مما فاح ريحه في هذا الزمان وكان دارساً بحمد الله منذ أزمان وهو أن قائلاً رافضياً زنديقاً أكثر في كلامه: أن السنة النبوية والأحاديث المروية -زادها الله علواً وشرفاً- لا يحتج بها، وأن الحجة في القرآن خاصة إلى أن قال: فاعلموا -رحمكم الله- أن من أنكر كون حديث النبي صلى الله عليه وسلم قولاً كان أو فعلاً بشرطه المعروف في الأصول حجة كفر وخرج عن دائرة الإسلام، وحشر مع اليهود والنصارى أو مع من شاء الله من فرق الكفرة.
روى الإمام الشافعي رضي الله عنه يوماً حديثاً وقال: إنه صحيح، فقال له قائل: أتقول به يا أبا عبد الله؟ فاضطرب وقال: يا هذا! أرأيتني نصرانياً؟ أرأيتني خارجاً من كنيسة؟ أرأيت في وسطي زناراً، أروي حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أقول به؟! ورسالة السيوطي هذه رسالة عظيمة مفيدة.
الشبهة الرابعة: قوله: إن كون هذه الأحاديث موضوعة يعرف بالحس من الحديث الطويل الذي نسب إلى النواس بن سمعان ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الحديث الذي ينبئ أن الدجال يخرج من خلة بين الشام والعراق، ويعمل الأعاجيب، ثم يدركه عيسى فيقتله، ثم يؤمر عيسى بأن يعتصم بالطور هرباً من قوم لا قدرة عليهم وهم يأجوج ومأجوج إلى أن قال: فيقولون: لقد قتلنا من في الأرض، فلنقتل من في السماء، فيرمون نشابهم إلى السم