للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[شرح حديث (لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا)]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فيمن يهجر أخاه المسلم.

حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ)].

أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب فيمن يهجر أخاه المسلم، وهجر المسلم إما أن يكون لأمور دنيوية، وأمور شخصية، وأمور تجري بين الناس، فهذا لا يسوغ الهجر فيه أكثر من ثلاث ليال، فإنه قد يحصل شيء فتتباعد النفوس فيما بينها في هذه المدة، لكن لا يجوز أن يتجاوز هذا المقدار الذي هو ثلاث ليالٍ.

وأما إذا كان الهجر لله عز وجل، مثل هجران أهل البدع، وأهل المعاصي، فإذا كان الهجر مفيداً لهم، ومؤثراً عليهم، لاسيما إذا كان من شخص يؤثر هجره كأن يكون والداً، أو أن يكون شخصاً مسئولاً، وإذا هجر يؤثر هجره على المهجور، فإن هذا أمر مطلوب، وإذا كان الهجر لا يترتب عليه مصلحة، أو كان الهجر في أمور غير واضحة، أو لم يكن التهاجر لمن عصى، أو حصل منه شيء، فإن هذا من الفتن التي يبتلى بها بعض الناس، ولهذا الواجب هو الحذر، وأن يكون الإنسان في مثل هذه الأمور على حيطة في دينه، فلا يسعى إلى إفساد قلوب الناس.

فالهجر إذا كان لله فإنه سائغ، ولكن ممن يفيد هجره وينفع، وإذا كان لحظ النفس، فإنه يجوز في حدود ثلاثة أيام، ولا يجوز أن يتجاوز ثلاثة أيام، وقد جاءت الأحاديث في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها حديث أبي هريرة هذا، الذي أورده المصنف أولاً، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تباغضوا) أي: لا تأتوا بالأسباب التي تجلب البغضاء بينكم، ولا تفعلوا الأسباب التي تسبب البغضاء، وإنما اعملوا على وجود الأسباب التي تسبب الألفة والمودة والصفاء والتقارب والتآلف، وابتعدوا عن الأسباب التي يترتب عليها تنافر النفوس والقلوب، وتدابر وتباغض وافتراق، بل احرصوا على الألفة وعلى المودة.

وقوله: (ولا تحاسدوا) أي: لا يحسد بعضكم بعضاً، فمن حصلت له نعمة من الله عز وجل فلا يحسده أخوه على هذه النعمة ويتمنى زوالها عنه سواء حصلت له أم لم تحصل له.

والحسد الذي بمعنى الغبطة لا بأس به، وهو أن يتمنى الإنسان إذا رأى غيره على خير وعلى استقامة أن يكون مثله، وأن يكون له مثل ما له دون أن يتمنى زوال ما معه، بل يبقى ذلك الفضل له ويحب أن يكون له فضل مثل ذلك الفضل، فهذا حسد بمعنى الغبطة وهو محمود، وقد جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك.

وأما إذا كان الحسد المذموم الذي ينتج عن نفس خبيثة بأن يكره حصول الخير للغير وبقاء النعمة عنده ويتمنى زوالها عنه، فإن هذا من الحسد المذموم الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (ولا تدابروا) أي: لا يحصل منكم التقاطع بحيث إن الشخصين إذا التقيا يعرض كل منهما عن الآخر فيوليه دبره ولا يوليه وجهه، فلأجل التقاطع الذي يكون بينهم ينتج عن ذلك أن كل واحد منهما يولي الآخر دبره بدلاً من وجهه، فيحصل بذلك التدابر، والتدابر معناه: أن كل واحد يولي الآخر دبره؛ لأنه لا يريد أن يلقاه ولا يريد أن يسلم عليه ولا يريد أن يتكلم معه.

قوله: (وكونوا عباد الله إخواناً) أي: هذه الأخوة التي منحكم الله إياها وهي أخوة الإسلام كونوا عليها بأن يحب كل واحد لأخيه ما يحبه لنفسه، ويحرص على ألا يكون هناك تباغض وتحاسد وتدابر بينه وبين أخيه المسلم.

ثم لما ذكر التدابر الذي هو أن يولي كل واحد الآخر دبره قال: (ولا يحل لأحد أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍِ) أي: إذا كان هناك في النفوس شيء لأمور دنيوية أو لأمور شخصية أو خاصة فيما بينه وبين غيره من التعامل ولم يكن ذلك لله عز وجل، فلا يحل له أن يهجره أكثر من ثلاث، وإنما عليه أن يحرص على أن يلتقي به وأن يزيل ما بينه وبينه، وأن يسلم أحدهما على الآخر، وألا يستمرا على هذه الهيئة الرديئة، وأما إذا كان الهجر لله عز وجل وكان يترتب عليه مصلحة، فإنه لا مانع من الزيادة على ذلك؛ لأن الهجر الذي هو محدد بهذا المقدار هو الهجر الذي هو لمصلحة النفس وللحظوظ الدنيوية وللأشياء التي تجري بين الناس عادة وليست من أجل الله، أما إذا كان من أجل الله فإن الزيادة سائغة، والرسول صلى الله عليه وسلم هجر كعب بن مالك وصاحبيه ومنع الناس من كلامهم خمسين ليلة حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ثم بعد ذلك تاب الله عز وجل عليهم ونزل القرآن بتوبتهم، فالزيادة على ثلاث ليالٍ فيما يتعلق بحق الله، وفيما يترتب عليه مصلحة ذلك سائغ، وقد جاءت به الشريعة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>