للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[شرح حديث قتل العرنيين حرابة]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في المحاربة.

حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس بن مالك: (أن قوماً من عكل أو قال: من عرينة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة، فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلقاح، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا النعم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم من أول النهار، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم فما ارتفع النهار حتى جيء بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون).

قال أبو قلابة: فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله].

يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في المحاربة] والمقصود بالمحاربة: إخافة الناس والاعتداء عليهم جهراً وعلانية، وهو يخالف السرقة، لأن السرقة فيها خفاء، وعدم بروز وظهور، وأما هذا ففيه ظهور وبروز وإظهار قوة وبطش، وقد يترتب على ذلك قتل، وقد يترتب على ذلك أخذ مال، وقد يترتب على ذلك الإخافة والذعر وعدم أمن الناس على أنفسهم وأموالهم، فجاءت هذه الشريعة ببيان أحكام ذلك كما جاءت ببيان أحكام السرقة، وهو: ما يكون في الخفاء.

ثم أورد أبو داود رحمه الله حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه في قصة العرنيين، الذين قدموا إلى المدينة واجتووها يعني: أصابهم فيها وباء، فسقمت بطونهم، واصفرت ألوانهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم بأن يذهبوا إلى إبل الصدقة، ويشربون من ألبانها وأبوالها، ففعلوا ذلك حتى صحوا، يعني: ذهب ما بهم من المرض وحصلت لهم الصحة والعافية، وحسنت أجسامهم وألوانهم، ولكنهم قابلوا هذا الإحسان إليهم بالإساءة، فقتلوا الراعي واستاقوا النعم، يعني: ذهبوا بالإبل التي كان يرعاها، فبلغ خبرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أول النهار، فأرسل في طلبهم، فأتي بهم بعدما ارتفع النهار، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع أيديهم وأرجلهم، وألقاهم في الحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا.

والذي حصل منهم أولاً: أنهم ارتدوا وقتلوا وسرقوا، يعني: جمعوا بين هذه الخصال الثلاث، وقد جاءت، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم بهم مثل الذي فعلوا بالراعي فعاقبهم، ونزلت بعد ذلك آية: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:٣٣] الآية.

قوله: [عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن قوماً من عكل أو قال: من عرينة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم)].

قال: هم من عكل وهي قبيلة، أو عرينة وهي قبيلة، وقيل هم من عكل وعرينة، لأنهم مختلطون، وفيهم من هو من هذه القبيلة، وفيهم من هو من هذه القبيلة، وفي بعض الروايات: أنهم ثلاثة من عكل وأربعة من عرينة، أي: أنهم مختلطون.

قوله: [(قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة)].

يعني: أصابهم الجواء وهو: الوباء والضرر الذي حصل لهم فيها، فاصفرت ألوانهم وسقمت بطونهم.

قوله: [(فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلقاح)].

وهي: الإبل التي فيها در، فأمرهم بأن يذهبوا إلى إبل الصدقة وهي ترعى في البر ومعها راع يقوم برعايتها ورعيها، فيشربوا من ألبانها وأبوالها، وفي هذا دليل على أن بول ما يؤكل لحمه وروثه طاهر، وليس بنجس، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بأن يشربوا من الأبوال والألبان، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يرشدهم إلى أن يتداووا بنجاسة، وهذا من الأدلة التي يستدل بها من قال بطهارة أبوال وأرواث ما يؤكل لحمه، ويستدلون لذلك أيضاً بقصة ركوب النبي عليه الصلاة والسلام وطوافه على بعير، ولا يؤمن البعير أن يبول وأن يحصل منه الروث وأن يصيب الأرض من ذلك، فهو دائماً على طهارته، لأن تعريض المسجد للنجاسة غير سائغ، فلما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عرف أن بول ما يؤكل لحمه ليس بنجس.

قوله: [(وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها)] وهذا فيه علاج وغذاء فيما يتعلق بالألبان، وكذلك هو علاج فيما يتعلق بالأبوال، ففعلوا ذلك، وفي هذا دليل على أن ابن السبيل له أن يستفيد من مثل هذه الإبل التي هي من إبل الصدقة، وقد جاء في القرآن أن من مصارف الصدقات ابن السبيل قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:٦٠] فإعطاء اللبان لمن يكون ابن سبيل ذلك سائغ، كما أن إعطاء ذوات الأنعام؛ كالإبل والبقر والغنم لمن هم من أهل الزكاة ومن جملتهم ابن السبيل هذا هو الذي يدل عليه القرآن، والسنة دلت على إعطاء الألبان لمن كان ابن سبيل، وكذلك لمن كان محتاجاً إليها لاستشفائه، ولحصول المرض الذي حصل له، وعلاجه يكون بألبانها وأبوالها.

قوله: [(فلما صحوا)] يعني: حصلت لهم الصحة، وذهب المرض، وحسنت الأجسام، وذهب اصفرارها.

قوله: [(قتلوا الراعي، واستاقوا النعم) يعني: ذاهبين بها وهاربين، فبلغ خبرهم إلى الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام فأرسل في طلبهم، وكان بلوغ الخبر في أول النهار، فذهب بعض الشجعان الفرسان، وأتوا بهم بعدما ارتفع النهار في وقت قصير، وكأن الخبر حصل في وقت قريب، والمسافة أيضاً ليست بعيدة، وقد ذهبوا هاربين شاردين بها، فأتي بهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام بعدما ارتفع النهار.

قوله: [(فلما صحوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا النعم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم من أول النهار، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فما ارتفع النهار حتى جيء بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون)].

قيل: إن المقصود بأنه سمر أعينهم بمسامير من حديد، يعني: تفقأ بها عيونهم، وذلك أنهم فقئوا عيني الراعي، ومثلوا به هذا التمثيل، ففعل بهم كما فعلوا بالراعي، وهذا يدل على أن القتل يكون على هيئة القتل في القصاص، بمعنى: أنه إذا قتل بطريقة ما فإنه يقتل بتلك الطريقة، إلا إذا كانت الطريقة فيها أمر منكر لا يسوغ فعله، فإنه لا يقتل بالطريقة المحرمة التي لا يجوز الإقدام عليها في أي حال من الأحوال، ومن أمثلة ذلك قصة الجارية التي رض اليهودي رأسها بين حجرين، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر بأن يفعل باليهودي مثل ما فعل بها، حيث إن الذي قتلها هو من اليهود وقد رض رأسها بين حجرين، فإن القتل يكون على الهيئة التي يكون عليها القتل من الجاني، وهذا هو الذي يدل عليه لفظ القصاص، والله تعالى يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:١٧٩]؛ لأن لفظ القصاص يشعر بالمقاصة، وأنه يكون على الهيئة التي حصل بها القتل، فإذا كان بتمثيل فإنه يعمل به كما عمل بغيره، ويجازى عند العقوبة كما فعل هو بغيره: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:٢٦]، وجاء في بعض الألفاظ: (سمر)، وفي بعض الألفاظ: (سمل أعينهم)، قيل: فقأها، وقيل: سمرها بالمخراز أو الإبر التي أحميت في النار، ثم وضعت على العيون حتى تفقأت.

قوله: [قال أبو قلابة: فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله].

قال أبو قلابة وهو أحد الرواة: (فهؤلاء قوم كفروا) يعني: ارتدوا عن الإسلام، وسرقوا، وقتلوا، وحاربوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>