[شرح حديث قصة بناء المنبر]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب اتخاذ المنبر.
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري القرشي حدثنا أبو حازم بن دينار (أن رجالاً أتوا سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهما وقد امتروا في المنبر مم عوده؟ فسألوه عن ذلك فقال: والله إني لأعرف مما هو، ولقد رأيته أول يوم وضع وأول يوم جلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلانة -امرأة قد سماها سهل - أن مري غلامك النجار أن يعمل لي أعواداً أجلس عليهن إذا كلمت الناس، فأمرته فعملها من طرفاء الغابة، ثم جاء بها فأرسلته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بها فوضعت هاهنا، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى عليها وكبر عليها ثم ركع وهو عليها ثم نزل القهقرى فسجد في أصل المنبر ثم عاد، فلما فرغ أقبل على الناس فقال: أيها الناس! إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي)].
أورد أبو داود رحمه الله هذه الترجمة، وهي: [باب اتخاذ المنبر] يعني أنه يستحب اتخاذ المنبر في المساجد التي يخطب فيها الخطيب والتي يصلى فيها الجمعة، حتى يكون الخطيب مرتفعاً بارزاً يراه الناس، ويتمكن الجميع من رؤيته ومن الاستفادة منه، وهذا هو المقصود من الترجمة.
وأورد حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الدال على استحباب ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر تلك المرأة أن تأمر غلامها أن يصنع له منبراً من أعواد؛ ليخطب على هذه الأعواد إذا كلم الناس، فيكون على مكان مرتفع، وهذا هو محل الشاهد.
وسبب حديث سهل بن سعد رضي الله عنه هو أن أناساً تماروا -أي: تجادلوا- في منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أي شيء هو؟ أي: من أي نوع هو من أنواع الخشب؟ فجاءوا إلى سهل بن سعد رضي الله عنه يسألونه فأخبرهم بأنه على علم تام بذلك، وأنه يعلم اليوم الذي أحضر فيه ذلك المنبر، واليوم الذي خطب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمكان الذي وضع فيه، واليوم الذي جلس عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم ذكر القصة وأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لامرأة لها غلام نجار: [(مري غلامك أن يعمل لي أعواداً أجلس عليها إذا كلمت الناس)] يعني: إذا خطب الناس وإذا وعظ الناس وذكر الناس صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فدل هذا على استحباب اتخاذ المنبر، واستحباب وجوده في المساجد حتى يصعد عليه الخطيب؛ ليكون ذلك أبلغ في وصول كلامه إلى الناس، ومشاهدة الناس له ورؤيتهم له.
ثم ذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما وضع له المنبر صلى عليه، فقام على أعلى المنبر وكبر وركع، ولما جاء السجود نزل القهقرى وسجد في أسفل المنبر، ثم لما جاء في الركعة الثانية رجع، ولما فرغ من صلاته قال: [(إنما يعمل هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي)] يعني: حتى يروه ويشاهدوه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو القدوة وهو الأسوة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (صلوا كما رأيتموني أصلي) فوقف على هذا المكان البارز حتى يراه الجميع، وحتى يراه غير أهل الصف الأول؛ لأنه مرتفع عن الناس يشاهده أهل الصف الأول ومن وراءهم.
ودل هذا -أيضاً- على أن العمل اليسير في الصلاة لا يؤثر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صعد على المنبر ثم نزل وهو في الصلاة، فدل على أن مثل ذلك سائغ، وأنه لا يؤثر في الصلاة شيئاً.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينزل القهقرى حتى يبقى إلى جهة القبلة ولا ينصرف إلى الناس ويقبل عليهم؛ لأنه في الصلاة متجه إلى القبلة، فعندما يريد أن يسجد ولا يستطيع السجود ولا يمكنه السجود على المنبر فإنه ينزل القهقرى ثم يسجد على الأرض صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وقد جاء في بعض الأحاديث أن المنبر كان ثلاث درجات، وجاء في بعضها أنه درجتين، وجمع بينهما بأنه كان ثلاث درجات، ومن قال: إنه درجتين لم يعد الدرجة التي يجلس عليها.
والغابة مكان يقال له: الغابة، والطرفاء شجر فيها، فكان منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اتخذ من هذا النوع من الشجر الذي هو شجر الطرفاء وكان في الغابة، والغابة مكان في شمال المدينة.
قوله: [(فسألوه عن ذلك فقال: والله إن لأعرف مما هو، ولقد رأيته أول يوم وضع، وأول يوم جلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
هذا الكلام قاله سهل بن سعد رضي الله عنه ليطمئن الذين سألوه على أنه على علم تام، وقد أقسم على ذلك حتى يزداد اطمئنانهم إلى تمام علمه وإلى معرفته بالشيء الذي سألوه عنه، وقد أجابهم بالذي سألوه وأجابهم بغيره، وأنه يعلم اليوم الذي جيء به، ويعلم اليوم الذي جلس عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذا يفيد علمه التام بما يتعلق بالمنبر من ناحية مادته، ومن ناحية اليوم الذي جيء به، ومن جهة اليوم الذي استعمله فيه رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، والمقصود من ذلك إخبارهم وطمأنتهم بأن سؤالهم عنده جوابه، وأنه متحقق منه، وأنه يعلم جواب ذلك السؤال، ويعلم أموراً أخرى دقيقة غير الذي سألوه، وهو اليوم الذي جيء به، واليوم الذي جلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلانة امرأة قد سماها سهل)].
يعني أن سهلاً سمَّاها، وهنا أبهمت فقيل: فلانة.
قوله: [(أن: مري غلامك النجار أن يعمل لي أعواداً أجلس عليهن إذا كلمت الناس)].
هذا هو محل الشاهد، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يستعمل المنبر في الجمعة وفي غير الجمعة.
قوله: [(فأمرته فعملها من طرفاء الغابة)].
يعني: أمرت غلامها فعمل المنبر من طرفاء الغابة، وهو شجر من شجر الغابة يقال له: الطرفاء.
قوله: [(ثم جاء بها فأرسلته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بها فوضعت ها هنا)].
يعني: جاء الغلام بالمنبر الذي صنعه إلى تلك المرأة، فالمرأة أرسلته به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بها -أي: بتلك الأعواد- فوضعت ها هنا، والإشارة إلى مكان في قبلة المسجد قرب الجدار الجنوبي الذي هو قبلة المسجد، وكان بينه وبين الجدار ممر الشاة كما سيأتي، أي أنه لم يكن ملصقاً بالجدار، ولكنه كان قريباً من الجدار، وليس بينه وبين الجدار إلا مقدار ما تمر الشاة.
قوله: [(فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى عليها وكبر عليها ثم ركع وهو عليها ثم نزل القهقرى فسجد في أصل المنبر ثم عاد)].
ذكر سهل رضي الله عنه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم صعد على المنبر ودخل في الصلاة وهو على المنبر وكبر وركع، ولما أراد السجود رجع القهقرى حتى سجد في أسفل المنبر -أي: على الأرض- ثم رجع، وأخبرهم عليه الصلاة والسلام بعد الفراغ من الصلاة أنه فعل ذلك ليتعلموا صلاته ولينظروا إليه ويعرفوا كيف يفعل، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (صلوا كما رأيتموني أصلي) فهو أراد أن يتعلم الناس كيفية صلاته، وأن يراه أهل الصف الأول وكذلك الصفوف الأخرى؛ لأنه عليه الصلاة والسلام إذا صلى على المنبر فالذين في الصف الأول والذين وراءهم كلهم يتمكنون من مشاهدته صلى الله عليه وسلم، وهذه الصلاة الظاهر أنها فريضة، وقد تكون الجمعة، فقد جاء في بعض الروايات أنه خطب ثم صلى الله عليه وسلم بهم، وليس لأحد الآن أن يصنع هذا؛ لأن الأحكام مستقرة، والناس يتعلمون بدون أن يصعد الإنسان على المنبر، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان هو الذي يأتي بالشرع، وهو الذي يقتدى به ويتلقى عنه الشرع، وبعد ذلك استقرت الأحكام، فليس لأحد أن يصعد على المنبر من أجل أن يعلم الناس، وإنما يعلم الناس بالكلام.