للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

شرح حديث جبريل في مراتب الدين مع زيادة: اتخاذ النبي مكاناً مرتفعاً يجلس عليه ليعرفه الغريب

قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن أبي فروة الهمداني عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي ذر وأبي هريرة قالا: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهري أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه قال: فبنينا له دكاناً من الطين، فجلس عليه وكنا نجلس بجنبتيه، وذكر نحو هذا الخبر، فأقبل رجل فذكر هيئته، حتى سلم من طرف السماط فقال: السلام عليك يا محمد قال: فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم)].

أورد أبو داود حديث أبي هريرة وأبي ذر رضي الله تعالى عنهما، وما تقدم من طرق فهي لحديث عمر رضي الله تعالى عنه، وأما هذا فهو عن أبي ذر وعن أبي هريرة، وأبو هريرة خرج حديثه البخاري أيضاً كما خرجه مسلم؛ لأن حديث جبريل متفق عليه من حديث أبي هريرة، وهو من أفراد مسلم من حديث عمر، وقد شرح الحافظ ابن حجر حديث أبي هريرة شرحاً مطولاً في كتاب الإيمان، والإمام النووي رحمه الله لما ألف كتابه الأربعين النووية جعل أول حديث فيه أول حديث في البخاري، وثاني حديث فيه أول حديث في صحيح مسلم، فالحديث الأول والثاني هما أول ما في الصحيحين، فحديث عمر (إنما الأعمال بالنيات) أول حديث في صحيح البخاري، وحديث عمر الذي هو حديث جبريل أول حديث في صحيح مسلم.

قوله: [(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهري أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه)].

أي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين أصحابه غير متميز عنهم، وإذا أتى شخص غريب لا يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم لم يميز من هو الرسول صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الجالسين، فعرض عليه أصحابه أن يبنوا له مكاناً مرتفعاً يجلس عليه حتى يعرف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى لا يلتبس على الناس، فوافق على ذلك فبنوا له دكاناً، أي: دكة من الطين، وهو مكان مرتفع، فكان يجلس عليه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

وجلوسه مع أصحابه بحيث لا يعرف يعد من تواضعه وكمال خلقه صلى الله عليه وسلم، فرأى أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم أن المصلحة أن يتميز حتى إذا أتى الغريب عرف الرسول صلى الله عليه وسلم من أول وهلة، فكان من شأنهم أن عرضوا عليه، وهذا من أدبهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فإنهم ما أقدموا على ذلك دون إذن، ولكنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الشيء وعرضوه عليه فأجابهم، فبنوا له دكاناً من الطين يجلس عليه وهم يجلسون حوله حتى يعرفه الغريب.

وفي هذا دليل على جواز كون المعلم يكون على مكان مرتفع كالكرسي أو غيره من أجل أن يكون بارزاً وأن يراه الجميع ويتمكنوا من الاستفادة منه.

قوله: [(حتى سلم من طرف السماط)].

يعني: المجلس، وهذا فيه دليل على أنه قد سلم، وأن ما جاء في بعض الروايات من عدم ذكر السلام لا يدل على عدمه؛ فيكون بعضهم ذكر ما لم يذكره الآخر، وأتى بما لم يأت به الآخر، فيكون كل ذلك معتبراً، ويكون كل ذلك ثابتاً مادام أنه جاء من طريق صحيح، فلا يقال: إن الرواية التي جاء فيها عدم ذكر السلام تدل على أن السلام لم يحصل، بل قد ثبت في بعض الطرق ما يدل على أن السلام قد وجد فيكون ذلك من فعل بعض الرواة إما لكونه لم يعرف ذلك، أو لكونه اختصر الحديث، فلم يذكر كل ما جاء فيه.

قوله: (فقال: السلام عليك يا محمد، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم)] جاء بلفظ: (السلام عليك يا محمد) ولا يبعد أن يكون سلم سلاماً عاماً، ثم سلم سلاماً خاصاً.

<<  <  ج:
ص:  >  >>