للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[اختصاص النبي بأنه أول من ينشق عنه القبر، وأول شافع ومشفع]

قوله: [(وأول من ينشق عنه القبر)] أي: أول من يبعث، وهذه من خصائصه عليه الصلاة والسلام.

ثم قال: (وأول شافع، وأول مشفع)، فهو أول من يتقدم للشفاعة، وهو أول من تجاب وتحقق شفاعته، وقد جمع بينهما في الحديث لبيان أن الأولية حاصلة له في الحالتين، وذلك أنه قد يحصل التقدم للشفاعة بأن يتقدم شخص ويتقدم شخص، ثم قد يشفع الثاني قبل الأول، لكن جاء في هذا الحديث ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعت فيه الأوليتان: الأولية المتعلقة بالتقدم للشفاعة، والأولية المتعلقة بقبول الشفاعة وتحقيقها وحصولها، فهذه من خصائصه عليه الصلاة والسلام وميزاته، وقوله في هذا الحديث: (أول من ينشق عنه القبر) يدلنا على أن المقبورين باقون في قبورهم، وبالنسبة للرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام فهم باقون في قبورهم على هيئتهم التي وضعوا فيها، فلا تأكلهم الأرض، ولا تغير الأرض شيئاً منهم؛ لأن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، وهم يخرجون منها عند البعث، ولا يخرجون قبل البعث، فلا يقال: إن جسد الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره يخرج من قبره ويبقى القبر ليس فيه جسد، بل إن كل ميت باق في قبره، فإن كان نبياً فإنه باق على هيئته، وإن كان غير نبي فمن الناس من يبقى على هيئته، ومنهم من تأكله الأرض، كما قال الله عز وجل: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ} [ق:٤] أي: فنحن سنعيده من التراب عند البعث، والأجساد التي أكلتها الأرض هي التي ترجع ذراتها حتى يتكون منها الإنسان الذي قبر، ولا يبعث جسد جديد غير الجسد الذي دفن، بل إن الجسد الذي دفن هو الذي يبعث، وإذا كانت الأرض قد أكلته فإن الله تعالى يعلم ما أخذته الأرض فيعيده، فترجع كل ذرة من ذرات جسده إلى مكانها، ثم يبعث الله ذلك الجسد الذي كان في الدنيا ثم قبر، ولا يبعث جسداً آخر، ولا يخرج أحد من قبره قبل البعث، وأما بعض الدجالين من غلاة الصوفية فإنهم يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يخرج من قبره، ويصافح بعضهم يقظة لا مناماً، فهذا من الدجل، وهو مخالف لما جاء في الكتاب والسنة، فهو يخالف ما جاء في هذا الحديث: (وأول من ينشق عنه القبر)، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو أول من يخرج من القبر، وقولهم مخالف للقرآن في قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:١٦]، فالناس لا يبعثون ولا يخرجون من قبورهم قبل يوم القيامة، وإنما يكون ذلك إذا جاء البعث والنشور، {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:١٦]، وهؤلاء الضلال من الصوفية يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم طلع من قبره، ومد يده لبعض ممن يزعمون أن فيه الولاية! وهذا من الدجل كما ذكرنا.

وكون الرسول صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة برزخية لا يعني ذلك: أنه يخاطب ويطلب منه شيء، وإنما يسلم عليه، ويدعى له فقط، فيدعى له ولا يدعى هو، والله تعالى هو الذي يدعى، والخلق كلهم يدعى لهم ولا يدعون، فلا يطلب شيء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقول إنسان: يا رسول الله! الشفاعة، يا رسول الله! أريد كذا، يا رسول الله! حقق لي كذا، بل تطلب الشفاعة من الله، فيقال: اللهم! شفع فيَّ نبيك، اللهم! اجعلني من الفائزين بشفاعته، اللهم! اجعلني ممن أكرمته بشفاعة نبيك محمد عليه الصلاة والسلام، فيطلبها من الله ولا يطلبها من غيره، فالدعاء عبادة، والعبادة إنما تكون لله سبحانه وتعالى، فلا يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم شيء وهو في قبره، ومما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يطلب منه شيء وهو في قبره أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا في زمنه عليه الصلاة والسلام إذا حصل جدب أو قحط فإنهم يأتون إليه ويطلبون منه الدعاء، فيدعو لهم ويغيثهم الله عز وجل، ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يذهبوا إلى قبره ويطلبوا منه الدعاء أن الله يغيثهم، وإنما طلبوا من بعضهم أن يدعو، كما حصل من عمر رضي الله عنه، فقد حصل في زمنه جدب وقحط فخرج بالناس للاستسقاء، وطلب من العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم ويدعو، وقال: اللهم! إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قم يا عباس! فادع الله، واختار العباس مع أن غير العباس أفضل منه لأنه عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أقرب الناس إليه، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يورث عنه المال لورثه العباس؛ لأنه أقرب القرابات إليه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر)، فاختاره رضي الله عنه لأنه عم النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر أفضل منه، وبعض الصحابة أفضل منه كـ عثمان وعلي، وهؤلاء موجودون في زمن عمر رضي الله عنه، ومع ذلك لم يطلب منهم ذلك، وإنما طلبه من عمه؛ لأنه أقرب الناس إليه، وليس المقصود هو التوسل بشخص العباس، وإنما المقصود قرابة العباس من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: إنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فلو كان طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبره سائغاً لما عدل عمر رضي الله عنه إلى طلب الدعاء من العباس، ولقال: يا رسول الله! ادع الله أن يغيثنا، فلما عدل عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابة معه إلى طلب الدعاء والسؤال من الله عز وجل عن طريق حي موجود معهم، ولم يتقدموا بذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم دل هذا على أنه لا يجوز الطلب من النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبره شيء، وغيره من باب أولى.

ومما يدل على ذلك أيضاً أن البخاري رحمه الله عقد في (كتاب المرضى) من صحيحه باب: قول المريض: وا رأساه! وذكر حديث عائشة لما قالت: (وا رأساه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان ذاك وأنا حي دعوت لك، واستغفرت لك) أي: لو مت قبلي دعوت لك واستغفرت لك، فهذا يدل على أن الدعاء إنما هو في الحياة، وأنه لا يطلب منه شيء بعد وفاته صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ولو كان الأمر سواء ولا فرق بين قبل الموت وبعده لما قال لها ذلك؛ لأن الأمر سيان، فلما قال لها ذلك دل على أن هذا إنما يطلب منه في حياته صلى الله عليه وسلم، ولا يطلب منه شيء وهو في قبره، وأما ما ابتلي به بعض الناس من الجهل المطبق الذي حملهم على أن يأتوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويخاطبونه ويقولون: يا رسول الله! أريد كذا، يا رسول الله! حقق لي كذا، يا رسول الله! مدد، فكل هذا من الشرك بالله سبحانه وتعالى؛ لأنه هو طلب من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً لا يطلب إلا من الله سبحانه وتعالى.

ويستدل البعض بقوله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم) على ملازمة قوله: سيدنا كلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا ذلك وهم أشد الناس محبة للرسول صلى الله عليه وسلم من غيرهم، وهم أسبق الناس إلى كل خير، وأحرص الناس على كل خير، والدليل على هذا: هذه الأحاديث التي نقرؤها، فالكتب الستة وغيرها كلها تنتهي إلى الصحابي، والصحابي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، ولو كانوا يقولون: سيدنا لنقل ذلك عنهم، فقد عرفنا أن أبا داود وغيره من المصنفين في الحديث يميزون بين كلمة (النبي) وكلمة (الرسول) فيما إذا قال أحد الرواة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: قال النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم يميزون بين هذا وهذا، فيقولون: فلان قال: النبي، وفلان قال: رسول الله، مع أن النتيجة واحدة، فالنبي هو الرسول والرسول هو النبي، والمقصود بذلك شخص واحد، لكن كل هذا للحفاظ على اللفظ، فلو كانت كلمة (سيدنا) موجودة لحافظوا عليها وأبقوها، ولم يتركوها، فدل هذا على أن الالتزام بذلك ليس من طريقة الصحابة ولا السلف الصالح، نعم هو سيدنا صلى الله عليه وسلم، لكن كونه لا يأتي ذكره إلا ويؤتى بهذا فلم يكن الصحابة على هذا.

<<  <  ج:
ص:  >  >>