[شرح حديث (إزرة المؤمن إلى نصف الساق)]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في قدر موضع الإزار.
حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه قال: سألت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه عن الإزار قال: على الخبير سقطت! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إزرة المسلم إلى نصف الساق، ولا حرج -أو لا جناح- فيما بينه وبين الكعبين، ما كان أسفل من الكعبين فهو في النار، من جر إزاره بطراً لم ينظر الله إليه)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [قدر موضع الإزار].
أي: موضع نهايته من الأسفل، وهو أن يكون إلى نصف الساق، ولا ينزل عن الكعبين، بل يكون بين الكعبين ونصف الساق، فهو المكان الذي يكون فيه منتهى الثوب سواء كان إزاراً أو قميصاً.
وقد أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سأله رجل عن قدر موضع الإزار فقال: (على الخبير سقطت) يعني: أنك سألت من عنده علم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.
وهذا يقوله أبو سعيد رضي الله عنه من أجل طمأنة الشخص السائل إلى أن عنده علماً وأنه خبير بذلك، ففيه حث له على أن يتلقى عنه ذلك العلم الذي تلقاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يبين ما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحرص على الخير وبذل العلم ونشره رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إزرة المسلم إلى نصف الساق) أي: أنها تنتهي إلى نصف الساق من الجهة العليا وتنتهي إلى الكعبين من الجهة السفلى، فيكون ما بين هذين المكانين هو الذي يجوز للإنسان أن يفعله، وليس له أن ينزل الثوب عن الكعبين؛ لأنه إذا نزل عن ذلك فإنه يكون قد وقع في الإسبال المحرم المنهي عنه المتوعد عليه بالوعيد الشديد الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (من جر إزاره بطراً لم ينظر الله إليه).
(من جر إزاره) أي: أنزله عن الكعبين، فإنه بذلك يكون مسبلاً، وهذا محرم، وقد عرفنا فيما مضى أن من جر الإزار متعمداً وقاصداً به الخيلاء فإن إثمه يكون أكبر وأعظم، وإن كان متعمداً ولكنه لم يرد الخيلاء فإن ذلك حرام ومن كبائر الذنوب.
قوله: [(إزرة المسلم إلى نصف الساق ولا حرج -أو لا جناح- فيما بينه وبين الكعبين، ما كان أسفل من الكعبين فهو في النار)].
وما كان بين الكعبين إلى نصف الساق فهذا هو السائغ المشروع الذي لا بأس به.
قوله: [(فهو في النار)] المقصود من ذلك أن صاحبه يكون معذباً على هذا الفعل، ويحتمل أن يكون المراد أنه يعذب بهذا الذي نزل في النار يوم القيامة؛ لأن ذلك هو سبب العذاب وهو نزوله عن الكعبين.
قال الخطابي: (فهو في النار) يتأول على وجهين: أحدهما: أن ما دون الكعبين من قدم صاحبه في النار عقوبة له على فعله.
والوجه الآخر: أن يكون معناه أن صنيعه ذلك وفعله الذي فعله في النار، على معنى أنه معدود ومحسوب من أفعال أهل النار.
ولا شك أن هذا يؤدي إلى النار، وهو فعل يستحق عليه العقوبة بالنار، ويحتمل أن يعذب بنفس هذا الذي نزل من الكعبين بحيث يكون ناراً تتلظى يوم القيامة؛ لأنه فعل أمراً منكراً فيعذب به يوم القيامة، ومعلوم أنه قد جاءت أحاديث بأن من فعل أمراً محرماً فإنه يعذب به نفسه في الآخرة، مثل الذي تحسى سماً، وكذلك الذي تردى من شاهق، فنفس العمل الذي عمله يعذب به يوم القيامة.
ولو قال قائل: ألا يحتمل أن يراد أن الجزء من الإزار أو الثوب النازل تحت الكعبين يكون في النار على حد قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:٩٨] فيكون جزء الثوب من حصب جهنم مثل الناس والحجارة وما ورد فيه نص بذلك؟! فيقال: لا.
هذا المقدار هو الذي يعذب به صاحبه مثلما يعذب الذي يتحسى السم في النار، ومن يقذف نفسه من شاهق فيعذب بنفس العمل، فهكذا القطعة من الثوب النازلة عن الكعب تلتهب عليه ناراً ويعذب بها، وكذلك جاءت أحاديث كثيرة في أن نفس الذنب يعذب صاحبه بمثله، والجزاء من جنس العمل.
قوله: [(ومن جر إزاره بطراً لم ينظر الله إليه)].
أي: النظر الذي يكون فيه رحمة له وإحسان إليه، وأما النظر الذي هو عام أو يكون فيه غضب وتبكيت وتقريع فهذا لا ينفيه الحديث، مثل قوله: (لا يكلمهم الله يوم القيامة)؛ جمعاً بين ذلك وبين قوله: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:١٠٨] ونحوه، فـ ((اخْسَئُوا)) كلام، ولكنه كلام تقريع وتبكيت، و (لا يكلمهم) أي: التكليم الذي فيه منفعة لهم وإحسان إليهم، فالمنفي غير المثبت، المنفي نوع من الكلام، والمثبت نوع من الكلام، وفي النظر أيضاً المنفي نوع والذي يثبت نوع آخر.
أما حقيقة النظر فهو تقليب الحدقة، هذا بالنسبة للمخلوقين، أما الله عز وجل وصفاته فعلى خلاف عما يوصف به خلقه، والفرق بين صفات الخلق وصفات الله كالفرق بين الخالق والمخلوق.