قال المصنف رحمه الله: [حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (الصيام جنة، فإذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم! إني صائم!)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(الصوم جنة) يعني: وقاية، كالجنة التي تكون على المجاهد من بيضة تكون على رأسه أو ترس يتقي به السيوف والسهام، والصوم جنة قيل: من النار، وقيل: من المعاصي، وكل منهما مراد، فالصوم من أسباب السلامة من عذاب النار، وأيضاً فيه سلامة من المعاصي؛ لأن الإنسان مع توسعه في الأكل والشرب تكون عنده القوة والنشاط الذي قد يدفعه إلى الرغبة في أمر محرم، ولكنه إذا صام فإن ذلك يضعف قوته وشهوته فيكون ذلك من أسباب الوقاية من المعاصي، قال عليه الصلاة والسلام في حديث ابن مسعود الذي سبق أن مر:(من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أحصن للفرج وأغض للبصر، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)، فهو جنة من المعاصي، ووقاية من النار، وكل منهما يحصل في الصوم، فالصوم من أسباب دخول الجنة، بل إن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون، ولا يدخل منه أحد غيرهم، وقيل له الريان -أي: ما قيل له الصيام- مع أن غيره من الأبواب الأخرى تسمى بالأعمال كباب الصلاة وباب الصدقة وذلك أن من عطش نفسه في الدنيا فإنه يحصل له رِيٌّ في الآخرة، فيدخل من باب يقال له الريان لا يحصل معه عطش.
قوله: [(فإذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث)].
يعني: لا يحصل منه الفسق والفاحش من القول، فالرفث: يراد به الفاحش من القول، كما أنه يراد به الجماع، قال تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}[البقرة:١٨٧] يعني: جماع النساء {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ}[البقرة:١٩٧]، يعني: لا جماع ولا إتيان بقول فاحش، وكذلك هنا:(لا يرفث) المقصود به الفاحش من القول.
ومن المعلوم أن الجماع أيضاً من الأشياء الممنوعة في حال الصيام.
قوله:(ولا يجهل) معناه: لا يحصل منه اعتداء أو جهل على أحد، يعني: فعلاً ليس بمحمود وإنما هو من قبيل الجهل المذموم الذي يذم صاحبه؛ ولذلك جاء في الدعاء في الخروج من المنزل:(أو أجهل أو يجهل علي) معناه أن يحصل منه اعتداء على أحد أو اعتداء من أحد عليه، ظلم منه لأحد أو ظلم أحد له.
قوله: [(فإن امرؤ قاتله أو شاتمه)].
يعني: حصل منه مسابة ومشاتمه، (فليقل: إني صائم!) وقوله: (إني صائم) قيل: إنه يقولها في نفسه حتى يذكر نفسه بالعبادة التي تكون من أسباب امتناعه من أن يقابل ذلك الذي سابه وشاتمه، أو أنه يقولها بلسانه من أجل أن يسمع ذلك الشخص حتى يعدل هو عن المسابة ويتركها، ويحتمل بأن يكون كل منهما مراداً، ويكون المقصود من ذلك تذكيره نفسه وتذكيره غيره، تذكيره في فسه بأنه صائم، والصائم ينبغي له أن يصون لسانه أكثر مما يصون غيره من المفطرين، وأيضاً يذكر غيره ممن هو يشاتمه أنه في عبادة ومتلبس بها، فيكون ذلك من أسباب كونه يقلع ويترك الاستمرار في المسابة والمشاتمة.