للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[شرح قول الحجاج بن يوسف (اتقوا الله ما استطعتم ليس فيها مثنوية)]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو بكر عن عاصم قال: سمعت الحجاج وهو على المنبر يقول: اتقوا الله ما استطعتم، ليس فيها مثنوية، واسمعوا وأطيعوا ليس فيها مثنوية لأمير المؤمنين عبد الملك، والله! لو أمرت الناس أن يخرجوا من باب من أبواب المسجد فخرجوا من باب آخر لحلت لي دماؤهم وأموالهم، والله! لو أخذت ربيعة بمضر لكان ذلك لي من الله حلالاً، ويا عذيري من عبد هذيل! يزعم أن قراءته من عند الله، والله! ما هي إلا رجز من رجز الأعراب ما أنزلها الله على نبيه عليه الصلاة والسلام، وعذيري من هذه الحمراء يزعم أحدهم أنه يرمي بالحجر فيقول إلى أن يقع الحجر: قد حدث أمر، فوالله! لأدعنهم كالأمس الدابر، قال: فذكرته للأعمش فقال: أنا والله سمعته منه].

أورد أبو داود هذا الأثر عن الحجاج عن الأعمش وعن عاصم بن أبي النجود بهدلة، يقول بأنه سمع الحجاج يخطب ويقول: (اتقوا الله ما استطعتم ليس فيها مثنوية) يعني: بدون استثناء، يعني: اتقوا الله عز وجل في امتثال أوامره ليس في ذلك استثناء، وليس فيه إلا الاستجابة والالتزام بما جاء عن الله عز وجل من تقوى الله على حسب الاستطاعة {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:١٦] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦] (واسمعوا وأطيعوا ليس فيها مثنوية لأمير المؤمنين عبد الملك بن مروان)، يعني: اسمعوا وأطيعوا بدون استثناء، ومعلوم أن السمع والطاعة لولاة الأمور فيها استثناء وليست على إطلاقها، بل ذلك في حدود طاعة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فيسمع له ويطاع في حدود طاعة الله ورسوله، وليس على الإطلاق؛ لأنه جاءت السنة عن الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه يسمع لولاة الأمر فيما أمروا به فيما كان ليس معصية، أما إذا أمروا بمعصية فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، كما جاءت السنة بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد قال المفسرون في قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:٥٩]: إن فعل الأمر (أطيعوا) أعيد مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعد مع ولاة الأمور، فلم يقل الله عز وجل: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر منكم، وإنما قال: ((أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)) فأعاد الفعل (أطيعوا) مع الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يعده مع ولاة الأمور؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم لا يأمر إلا بما هو حق وهو مبلغ عن الله، وكل ما يأتي به فهو وحي من الله عز وجل، وأما ولاة الأمور فإنهم يصيبون ويخطئون، وليسوا بمعصومين، فلم يأت إعادة الأمر (أطيعوا) معهم كما أعيد مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فتكون طاعتهم مقيدة في حدود ما هو طاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو في حدود ما ليس بمعصية لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا حصل منهم الأمر بما هو معصية فلا يسمع لهم ولا يطاع، وإنما يطاع لله ولرسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ويستجاب لما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.

قوله: [اتقوا الله ما استطعتم ليس فيها مثنوية، واسمعوا وأطيعوا ليس فيها مثنوية لأمير المؤمنين عبد الملك، والله لو أمرت الناس أن يخرجوا من باب من أبواب المسجد فخرجوا من باب آخر لحلت لي دماؤهم وأموالهم].

هذا كلام باطل، نعم عليهم السمع والطاعة إذا أمرهم بأمر ليس فيه معصية، ولكن كونه تحل له الدماء والأموال بمجرد المخالفة في مثل هذا الأمر الذي ذكره حيث يقول لهم: اخرجوا من هذا الباب، فخرجوا من باب آخر غير الباب الذي قال لهم فهذا باطل إذ لا تحل له دماؤهم إلا بما جاءت به الشريعة، وهذا الكلام إنما يدل على ظلمه وعلى جوره وعلى شدة بطشه وبأسه.

قوله: [والله! لو أخذت ربيعة بمضر لكان ذلك لي من الله حلالاً].

وهذا كلام باطل أيضاً؛ فأخذ ربيعة بمضر يعني: يقتل قبيلة بقبيلة، أو يأخذ قبيلة بقبيلة، وربيعة بن نزار تنسب إليه القبيلة المشهورة الكبيرة الواسعة، ومضر بن نزار ينتهي إليه نسب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن مضر هو جد الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس بينه وبين عدنان إلا اثنان فهو مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وعدنان هو الأب الحادي والعشرون للرسول صلى الله عليه وسلم، فـ ربيعة ومضر أخوان وهما أولاد نزار بن معد بن عدنان، وهما قبيلتان مشهورتان كبيرتان واسعتان، فقوله: (لو أخذت ربيعة بمضر كان ذلك لي من الله حلالاً) لا يجوز أخذ شيء ولا قتل لأحد إلا في حدود ما هو سائغ شرعاً، أما مخالفة الشرع والقتل بالظلم فهذا حرام.

قوله: [ويا عذيري من عبد هذيل! يزعم أن قراءته من عند الله! والله! ما هي إلا رجز من رجز الأعراب ما أنزلها الله على نبيه صلى الله عليه وسلم].

وهذا كلام باطل، والمقصود بذلك عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن له مصحفاً، وهو ليس كما قال الحجاج وإنما هو عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذا من ظلمه وبطشه وكذبه، فإن الأمر ليس كما يقول، ومعلوم أن عثمان رضي الله عنه وأرضاه جمع الناس على مصحف واحد، وأحرق ما سوى ذلك إلا ما كان عند عبد الله بن مسعود فإنه أبى أن يعطيهم إياه واحتفظ به، وقال الحجاج هذه المقالة لأنه لم يعط عثمان المصحف ليحرقه كما أحرق غيره، وبقي الناس على المصحف الذي جمعه عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فكلام الحجاج باطل.

قوله: [وعذيري من هذه الحمراء].

المقصود من ذلك الموالي الذين قيل: إن أمهم حمراء وليسوا من العرب.

قوله: [يزعم أحدهم أنه يرمي بالحجر فيقول: إلى أن يقع الحجر قد حدث أمر].

يزعم أحدهم أنه يرمي بالحجر فيقول: إلى أن يقع الحجر قد حدث أمر، ما أدري وجه هذا الكلام، يعني هل يقول: إنه قبل أن يقع الحجر، أنه حدث أمر، وأن هذا مبادرة أو سرعة إلى الكذب وإلى حصول شيء قبل أن يقع الحجر، في فترة وجيزة؛ لأن الحجر إذا رمي يقع بعد فترة وجيزة، ولا يطول بقاؤه في الهواء قبل أن يقع على الأرض، (قد حدث أمر) لعل المقصود أنه إخبار بأمور فيها إرجاف أو فيها أمور وفيها تنغيص وتكدير للصفو، أي: يريد الحجاج من وراء ذلك تخويف الناس وتهديدهم ألا يقع أمور فيها عدم بقاء الأمن واستمرار الأمن قوله: [والله! لأدعنهم كالأمس الدابر].

معناه: أنه يقضي عليهم فينتهي أمرهم مثلما انتهى أمس ومضى، ومعنى ذلك: أنه يقضي عليهم.

وهذه العبارة تشبهها العبارة التي عند الأدباء في هذا الزمان، يقولون: أصبح في خبر كان، يعني: أنه مضى وانتهى.

قوله: [قال: فذكرته للأعمش، فقال: أنا- والله- سمعته منه].

يعني: هذا الكلام الذي قلته أيضاً أنا سمعته.

وهذا كلام فيه حق، وفيه كلام فيه حق وباطل، وفيه كلام باطل، فالأول حق بلا شك، اتقوا الله ما استطعتم ليس فيها مثنوية، والثاني: اسمعوا وأطيعوا لأمير المؤمنين ليس فيها مثنوية، هذا فيه حق وباطل؛ لأنه إذا كان في غير معصية فهو حق، وإن كان في معصية فهو باطل، وأما ما بعد ذلك من التهديد والكلام فهو باطل.

<<  <  ج:
ص:  >  >>