للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[عظم ذنب الشرك]

الشرك بالله عز وجل هو أظلم الظلم، وأبطل الباطل، وهو الذنب الذي لا يغفره الله عز وجل، وكل ذنب دونه هو تحت مشيئة الله إن شاء عفا عن صاحبه ولم يعذبه وأدخله الجنة، وإن شاء أدخله النار، ولكنه يخرجه منها ويدخله الجنة، ولا يبقى في النار أبد الآباد إلا من كان كافراً أو مشركاً، فهذا هو الذي يخلد صاحبه في النار، وكل ما دون ذلك من المعاصي وإن كبرت فأمر صاحبها إلى الله عز وجل، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨] أي: دون الشرك ((لِمَنْ يَشَاءُ))؛ لأنه تحت المشيئة إن شاء غفر الله له ولم يعذبه على ما اقترفه من الكبائر والمعاصي التي هي دون الشرك، وإن شاء عذبه عليها وأدخله النار، ولكنه لا يبقى في النار ولا يخلد فيها كما يخلد الكفار، بل لابد أن يأتي عليه وقت يخرج من النار ويدخل الجنة، فلا يخلد في النار إلا الكفار الذين هم أهلها، ولا سبيل لهم إلى الخروج منها أبداً.

والشرك بالله عز وجل بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك)، فالله تعالى هو الذي خلق ورزق، وهو الذي يحيي ويميت، فكيف يجعل لله نداً؟! وهذه الأنداد مخلوقة كانت بعد أن لم تكن، فكيف يعبد الإنسان مخلوقاً مثله! أين العقول؟! العبادة إنما تكون لله عز وجل الذي تفرد بالخلق والإيجاد، وهو الذي يجب أن يفرد ويخص بالعبادة، ولا يجعل مع الله شريك في العبادة، بل يجب أن تكون خالصة لوجه الله، كما قال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦]، وقال: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:١١٠]، فلابد من الإخلاص لله عز وجل، ولابد من إفراد الله بالعبادة، وهذا هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله؛ لأن مقتضاها: ألا يعبد إلا الله، وأن تكون العبادة خالصة لوجه الله، لا شريك له فيها، كما أنه لا شريك له في الخلق والإيجاد والإحياء والإماتة، فلا شريك له في العبادة، بل المتفرد بالخلق والإيجاد هو الذي يجب أن يفرد بالعبادة، ولهذا يأتي كثيراً في القرآن الكريم بيان تفرد الله بالخلق والإيجاد، وأنه هو الذي ينفع ويضر، ويأتي بعد ذلك التنبيه على أن من يكون كذلك فهو الذي يجب أن يعبد وحده لا شريك له، كما قال الله عز وجل: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل:٦٠]، ثم قال بعد ذلك: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} أي: الذي يتفرد بهذا الخلق والإيجاد هو الذي يجب أن يكون وحده المعبود، فلا يجعل معه آلهة ولا يعبد مع الله غيره، (أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل:٦٠] أي: يسوون غير الله بالله.

{أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:٦١ - ٦٢]، وهكذا يأتي ذكر تفرده بالخلق والإيجاد والتصرف في الكون كيف يشاء، وأنه هو الذي ((يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ))، ويكون المقصود من ذلك الإلزام بأن تكون العبادة لله وحده لا شريك له، ولهذا يقولون: توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية، فمن أقر بالربوبية يلزمه أن يأتي بالألوهية؛ لأنه إذا كان الله هو الخالق وحده، والرازق وحده، وكل ما سواه مخلوق، فكيف يعبد المخلوق؟! وكيف تصرف العبادة للمخلوق الذي كان عدماً فأوجده الله؟! هذا المعدوم الذي أوجده الله يعبد فيكون له نصيب من العبادة أين العقول؟! أين الفهم؟ ولا بد مع إفراد الله بالعبادة أن تكون العبادة مطابقة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن كانت على خلاف ذلك كانت من البدع المحرمة التي لا يجوز التعبد لله عز وجل بها؛ لأن الله تعالى يتعبد بما شرع، ولهذا قال بعض أهل العلم في تفسير شهادة أن محمداً رسول الله: هي طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع، لا يعبد الله إلا بما شرع عز وجل من الشرع الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا عبد الله، وأخلصت العبادة لله، ولكنها كانت مبنية على بدعة؛ فإنها تكون مردودة على صاحبها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم، وفي لفظ لـ مسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وهو أعم من الذي قبله؛ لأنه يشمل ما إذا كان هو المحدث للعمل الذي عمله مخالفاً للشرع به، أو كان المحدث غيره ولكنه اتبع من أحدثه، فقوله: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أعم من قوله: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)؛ لأن الأول جزء من الثاني، أي: أن المحدث للعمل الذي عمله، وكذلك الذي لم يحدثه ولكنه تابع المحدث، كل من هؤلاء وهؤلاء الذين عملوا عملاً على غير وفق السنة أعمالهم مردودة عليهم، وهذا هو مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن مقتضى الشهادة بأنه رسول الله أن يتابع، وأن يلتزم بما جاء به عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

إذاً: مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله: ألا يعبد إلا الله، ومقتضى شهادة أن محمداً رسول الله: ألا يعبد الله إلا طبقاً لما شرع رسول الله، كما قال الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:٣١] فعلامة محبة الإنسان لله عز وجل: أن يكون متبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي}، لابد من البينة على الدعوى، وإذا كانت البينة كاذبة تكون الدعوى كاذبة، فإذا قال: إنه يحب الله ورسوله، ولا يطيع الله ورسوله، ولا يعمل بما جاء عن الله ورسوله؛ فهذه الدعوى غير صادقة بل هي كاذبة.

فالدعوى إنما تكون صحيحة إذا قامت البينة عليها، والبينة عليها هي الاتباع، وعلى هذا فلابد من أمرين، وهما: تجريد الإخلاص لله وحده، وتجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يعبد إلا الله، ولا يعبد الله إلا طبقاً لما شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يعبد بالبدع والهوى ومحدثات الأمور، وإنما يعبد بالشرع الذي شرعه الله لرسوله، والذي أنزله الله على رسوله، سواء كان كتاباً أو سنة، هذا هو الذي يتعبد الله به.

ولهذا يلزم علي المسلم أن يكون حريصاً على اتباع الكتاب والسنة، وأن يسأل عما جاء في الكتاب والسنة ليعمل به، وهذا هو الذي قامت عليه الرسالات، قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:٣٦]، فكل رسول أرسله الله يدعو قومه الذين أرسل إليهم إلى أن يعبدوا الله وحده وأن يجتنبوا عبادة غيره.

وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:٢٥] ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ)) أي: أن أي رسول أرسلناه من قبلك نوحي إليه: ((أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)).

إذاً: أظلم الظلم، وأبطل الباطل، وأعظم الذنوب على الإطلاق: الإشراك بالله، وهو صرف حق الله إلى غير الله، كالاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، ودعاء الجن، ودعاء الملائكة، ودعاء الغائبين ممن لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، وإنما يسأل الإنسان فيما يقدر عليه، ويطلب من الإنسان الحي ما يقدر عليه، أما أن يطلب من الأموات أشياء، ويطلب من الجن أشياء، ويطلب من الملائكة أشياء، وهذه الأشياء لا يجوز أن تطلب إلا من الله؛ فهذا هو الشرك بالله عز وجل، وإن لم يكن هذا شركاً فما هو الشرك؟! هل الشرك فقط أن يدعى أن السماوات والأرض شارك في خلقهما أحد غير الله؟! لا أحد يقول: إن السماوات والأرض شارك في خلقهما أحد غير الله، والكفار لما بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يقرون بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت المتصرف في الكون، ولكنهم مع ذلك كانوا يجعلون معه آلهة أخرى، وتلك الآلهة يزعمون أنها تقربهم إلى الله، والله عز وجل لا يحتاج في عبادته إلى واسطة تكون بينه وبين خلقه، يقول الله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:١٨٦]، وقال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء:٥٧]، فالملائكة والأنبياء وغيرهم الذين يدعونهم من دون الله، هؤلاء كلهم يتنافسون في التقرب إلى الله، ويعملون الأعمال التي تقربهم من الله سبحانه وتعالى، فلا يصرف إليهم شيء من العبادة، ولا تصرف العبادة إلا لله عز وجل.

هذا هو الأمر الأول من الأمور السبعة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات).

<<  <  ج:
ص:  >  >>