[شرح حديث (فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين)]
قال المصنف رحمه الله: [باب متى يتم المسافر؟ حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد، (ح): وحدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا ابن علية وهذا لفظه -أخبرنا علي بن زيد عن أبي نضرة عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال:(غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين ويقول: يا أهل البلد! صلوا أربعاً فإنا قوم سفر)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى:[باب متى يتم المسافر؟] يعني: متى يتم المسافر صلاته إذا أقام ببلد في سفره مدة معينة، فمتى يقصر ومتى يتم؟ هذا هو المقصود من الترجمة.
والجواب هو أن جمهور العلماء ذهبوا إلى أن الإنسان إذا دخل بلداً وعند دخوله فيه عزم على أن يمكث أكثر من أربعة أيام فإنه يتم من حين دخوله ذلك البلد؛ لأن له حكم المقيمين، ولأن عناء السفر والحركة والانتقال كلها غير موجودة فيه، بل شأنه شأن الناس الآخرين، أما إذا مكث أربعة أيام فأقل فإنه يقصر في حدود هذه المدة، وما كان أكثر منها فإنه يتم كما عرفنا، وحجتهم في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع لما دخل مكة في اليوم الرابع ضحى مكث فيها أربعة أيام: من ضحى يوم الأحد الذي هو الرابع إلى ضحى يوم الخميس الذي هو الثامن، في تلك السنة التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الوقوف في عرفة يوم الجمعة، فهذه إقامة محققة؛ لأنه جلس في هذا المكان ينتظر الحج فكان يقصر، فدل على أن ما كان مثل هذه المدة يقصر فيه، وما زاد عليها فإنه يتم فيه؛ لأن هذه هي المدة المتحققة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عزم على البقاء فيها، وإذا كان الإنسان دخل بلداً وله حاجة ولا يعلم متى تنتهي وهو يريد أن يقضي حاجته، وكلما مضى يوم لم تنقض حاجته فإنه يستمر في القصر؛ لأنه لم يعزم على المكث مدة أربعة أيام فأكثر، ولكنه يريد إذا انتهت حاجته أن يمشي، فإنه لا يعلم متى تنتهي حاجته، فهذا يقصر ولو طالت المدة، وعلى هذا فإن جمهور أهل العلم ذهبوا إلى ذلك الذي أشرت إليه، أي أنه إذا عزم على أن يمكث أربعة أيام فأكثر فإنه يتم، وإذا كان عنده العزم على أنه لا يقيم أربعة أيام، وإنما أقل من أربعة أيام فإنه يقصر، والرسول صلى الله عليه وسلم مكث بمكة أياماً أصحها أنها تسعة عشر يوماً؛ لأنه الذي جاء في صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مكث تسعة عشر يوماً، وذلك من حديث ابن عباس، وليس هناك شيء يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما دخل كان عازماً على أن يبقى هذه المدة، بخلاف الأربعة أيام التي قبل الحج، فإن العزم فيها محقق؛ لأنه ينتظر يوم الثامن حتى يذهب إلى منى ثم عرفة، فهذه إقامة محققة، بخلاف تلك الإقامة التي في مكة، فليس هناك شيء يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة عزم على أن يبقى هذه المدة، حتى يقال: إنه ما دام أنه قصر فيها كلها فمعناه أنه عازم على البقاء، وقد عرفنا أنه إذا لم يكن هناك تحديد للإنسان عند دخوله بل لم يحصل منه عزم على مدة معينة فإنه يقصر ولو طالت المدة، فيكون قصره صلى الله عليه وسلم في مكة تسعة عشر يوماً، وكذلك قصره في تبوك عشرين ليلة هو من هذا القبيل، وليس معناه أن هذه إقامة الإنسان الذي يريد أن يمكثها فيقصر، والتي يزيد عليها لا يقصر فيها؛ لأنه لا يوجد شيء يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم عزم على مكث هذه المدة عندما وصل إلى مكة أو عندما وصل إلى تبوك.
وأورد أبو داود رحمه الله تحت هذه الترجمة حديث عمران بن حصين رضي الله عنه أنه سافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح -يعني: فتح مكة- فمكث في مكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين، يعني أنه يقصر الرباعية، وكان يقول لأهل مكة: أتموا يا أهل البلد؛ فإنا قوم سفر، يعني أن المسافرين يقصرون وأهل البلد ليس لهم أن يقصروا، بل عليهم أن يتموا؛ لأنهم مقيمون ومن أهل البلد، والقصر إنما هو للمسافر، وأهل البلد حاضرون مقيمون، فلا يجوز لهم القصر، وإنما يجب عليهم الإتمام.
وهذا الحديث -حديث عمران بن حصين رضي الله عنه- حديث ضعيف؛ لأن في إسناده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، وهو معارض لحديث ابن عباس الذي سيأتي أنه مكث تسعة عشر يوماً، وكان يقصر الصلاة، فالمدة التي مكثها رسول الله صلى الله عليه وسلم المحققة تسعة عشر يوماً، وما سوى هذا فهو إما رواية ضعيفة أو مرجوحة أو شاذة، وبعض أهل العلم قال: إن التوفيق بينها ممكن بأن يقال: إذا كان ثمانية عشر مكث فمعناه أنه حسب يوم الدخول، وإذا كان سبعة عشر فإنه لم يحسب يوم الدخول ويوم الخروج، بعض أهل العلم قال ذلك، ولكن الأرجح والواضح الذي دل عليه الدليل أنها تسعة عشر يوماً أقامها بمكة، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري، والحديث في إسناده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.
قوله: [(ويقول: يا أهل البلد)] يعني: يا أهل مكة، [(صلوا أربعاً فإن قوم سفر)] يعني: لستم مثلنا ولسنا مثلكم، فنحن نقصر لأننا مسافرون، وأنتم أهل بلد عليكم الإتمام ولا يجوز لكم القصر.
وهذا الكلام يمكن أن يقال بعد الصلاة، أي: بعد الفراغ من الصلاة، ويمكن أن يقال قبل الصلاة.
وفيه دلالة على ائتمام المقيم بالمسافر، فالمقيم يأتم بالمسافر، والمسافر يأتم بالمقيم والمسافر، والمقيم إذا ائتم بالمسافر فإنه يتم، وأما المسافر إذا ائتم بالمقيم فيجب عليه أن يتم كما سبق أن مر بنا في حديث ابن عباس رضي الله عنه أنه قيل له:(ما بال المسافر إذا صلى وحده صلى ركعتين وإذا صلى خلف إمام يتم؟ قال: تلك سنة محمد صلى الله عليه وسلم)، فالمسافر يأتم بالمقيم، والمقيم يأتم بالمسافر، ولكن المسافر إذا ائتم بالمقيم فإنه يصلي صلاة المقيم ولا يصلي صلاة المسافر، فلا يقصر، ولو أدرك الركعتين الأخيرتين فقط من الصلاة الرباعية فلا يقل: أنا مسافر ويكفيني هاتان الركعتان؛ لأنه ما دام صلى خلف مقيم فعليه أن يصلي صلاة مقيم، والعكس، فالمقيم إذا صلى خلف المسافر يقوم فيكمل ما بقي من صلاته.