[شرح حديث أم كلثوم بنت عقبة (ما سمعت رسول الله يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث)]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الربيع بن سليمان الجيزي حدثنا أبو الأسود عن نافع -يعني ابن يزيد _ عن ابن الهاد أن عبد الوهاب بن أبي بكر حدثه عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أمه أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها قالت:(ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: لا أعده كاذباً: الرجل يصلح بين الناس يقول القول ولا يريد به إلا الإصلاح، والرجل يقول في الحرب، والرجل يحدث امرأته، والمرأة تحدث زوجها)].
أورد أبو داود حديث أم كلثوم بنت عقبة رضي الله تعالى عنها أنها قالت:(ما سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث)، ومعنى ذلك: أن الكذب الأصل فيه التحريم، ولكنه رخص في هذه الأمور الثلاثة؛ وذلك لأن الكذب فيها يترتب عليه مصلحة كبيرة ومصلحة عظيمة، وتغتفر مفسدة الكذب بجانب المصالح العظيمة المترتبة على ذلك، ومنها الإصلاح بين الناس، وهذا محل الشاهد.
وقوله:(والرجل يقول في الحرب) أي: يقول القول الذي فيه تشجيع للمسلمين وتقوية لنفوسهم، وكذلك فيه إخافة العدو، والعمل الذي يكون فيه ضرر وحصول رعب بين الأعداء يكون فعله سائغاً، وإذا حصل ذلك بالتورية فإن هذا هو الذي ينبغي، وإن حصل أنه يكذب لمصلحة كبيرة تترتب على نصرة المسلمين وعلى خذلان الكفار فلا بأس؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رخص في ذلك، ولكن إن حصل المقصود بدون التصريح بل بتورية فإنه هذا هو الذي ينبغي، فيقول مثلاً: إن المدد آتٍ، وإن المدد كثير، ويقصد أن المدد آتٍ من الله، وأن الله تعالى يأتي بالمدد، والناس يفهمون أن المدد جيوش جاءت، وهو وإن لم يكن هناك جيوش جاءت بالإمداد، ولكن كونه يقول: إنه سيأتي مدد وإن المدد كثير، فإنه يقصد أنه سيكون لكم عون من الله، وما إلى ذلك من العبارات، وقد جاء في الحديث:(الحرب خدعة).
ومن ذلك أن يخفي ويكتم الأخبار عن الأعداء حتى لا تصل إليهم، والرسول صلى الله عليه وسلم كان من عادته أنه إذا أراد أن يغزو إلى جهة معينة ورى عنها، فكان إذا عزم أنه يذهب إلى جهة الجنوب يجعل الناس يستعدون ولكن لا يدرون إلى أي اتجاه سيذهبون، ويسأل عن الطرق في جهة الشمال، فالذي يسمع السؤال يظن أنه سيذهب شمالاً، فمادام أن الجيش الآن يهيأ وهو يسأل عن الطريق من جهة الشمال وهو عازم على أن يذهب جنوباً، فإن هذا من التورية، وكذلك أيضاً ما حصل في عمرة القضاء، فإنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه مقالة الكفار:(إنه يقدم عليكم قوم وهنتهم حمى يثرب) فأمر صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا في الأشواط الثلاثة الأول، وإذا كانوا بين الحجر الأسود والركن اليماني حيث تكون الكعبة حاجبة بينهم وبين الكفار الذين هم في الجهة الشمالية في جهة الحجر يمشون ويأخذون نفسهم بدلاً من الحركة التي كانت تحصل في المواطن التي يراها الكفار، وهذا كله من إظهار قوة المسلمين وإن كان عندهم شيء من الضعف، لكن يظهرون بالقوة، ولكنه صلى الله عليه وسلم لما حج حجة الوداع رمل من الحجر إلى الحجر، فبقيت هذه السنة، وكان أصلها هو هذا الذي حصل للمسلمين في عمرة القضاء.
والحاصل: أن الحرب خدعة، كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمير الجيش يأتي بكل ما يشجع قومه وجماعته الذين معه ويعمل كل ما يخيف أعداءهم.
وقوله:(والرجل يحدث امرأته والمرأة تحدث زوجها) أي: فيما يجلب المودة بينهما، وما يكون سبباً في الألفة بينهما؛ بحيث إنه يقول لها ما يجعلها تألفه، وهي تقول له ما يكون سبباً في إلفه لها.