للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[شرح حديث: (هل أنتم تاركون لي أمرائي)]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الإمام يمنع القاتل السلب إن رأى، والفرسُ والسلاحُ من السلب.

حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثني صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: خرجت مع زيد بن حارثة رضي الله عنه في غزوة مؤتة، فرافقني مَدَدِي من أهل اليمن ليس معه غير سيفه، فنحر رجل من المسلمين جزوراً فسأله المددي طائفة من جلده فأعطاه إياه فاتخذه كهيئة الدرق، ومضينا فلقينا جموع الروم، وفيهم رجل على فرس له أشقر عليه سرج مذهب، وسلاح مذهب، فجعل الرومي يفري بالمسلمين، فقعد له المددي خلف صخرة، فمر به الرومي فعرقب فرسه فخر وعلاه فقتله وحاز فرسه وسلاحه، فلما فتح الله عز وجل للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد رضي الله عنه فأخذ من السلب، قال عوف: فأتيته فقلت: يا خالد! أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالسلب للقاتل؟! قال: بلى، ولكني استكثرته.

قلت: لتردنه عليه أو لأعرفنكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يرد عليه، قال عوف: فاجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقصصت عليه قصة المددي وما فعل خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا خالد! ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رسول الله! لقد استكثرته.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا خالد! رد عليه ما أخذت منه.

قال عوف: فقلت له: دونك يا خالد! ألم أفِ لك؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وما ذلك؟ فأخبرته، قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا خالد! لا ترد عليه، هل أنتم تاركون لي أمرائي؟ لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره)].

أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: [باب الإمام يمنع القاتل السلب إن رأى، والفرسُ والسلاحُ من السلب].

يعني: إذا رأى ذلك فإن القاتل يكون له السلب، ولكن للإمام أن يمنعه إذا رأى ذلك، أي: يمنع القاتل السلب إذا رأى ذلك.

وقوله: [والفرس والسلاح من السلب] يعني أنهما من جملة السلب، بحيث إذا كان للمقتول فرس ومعه سلاح فإنه يكون سلباً ويكون لقاتله فيملك الفرس ويملك السلاح.

وأورد أبو داود حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه أنه قال: [خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة، فرافقني مددي من أهل اليمن ليس معه غير سيفه].

وغزوة مؤتة هي الغزوة التي كانت في أرض الروم، وكانت في السنة الثامنة، واستشهد فيها ثلاثة من الأمراء، وهم زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة، ويقال لها: غزوة الأمراء؛ لأنه استشهد فيها أمراء ثلاثة أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ الراية خالد ونصر الله المسلمين على أعدائهم.

قال عوف بن مالك: صحبني مددي من اليمن.

والمددي هو الذي يأتي يمد الجيوش أو تمد به الجيوش، فيقال له: مددي.

أي: جاء يمد الجيوش، كما أخبر صلى الله عليه وسلم عن أويس القرني فقال: (يأتيكم مع أمداد أهل اليمن) يعني الذين يأتون من اليمن ليمدوا الجيوش، فيقال للواحد: مددي، ويقال للجمع: أمداد.

فكان أهل اليمن يأتون أمداداً للجيوش، وفي الحديث: (إني لأجد نفس الرحمن من جهة اليمن) والمقصود به ما يحصل للمسلمين من التنفيس عن طريق الجيوش والأمداد التي تأتي من جهة اليمن، هذا هو معنى الحديث، وليس المقصود بذلك أن الله تعالى يوصف بأن له نفساً، وإنما يعني الجند أو الجيش أو الرجال الذين يحصل بهم التنفيس على المسلمين بمجيئهم لقتال الكفار.

قال عوف عن هذا المددي: [ليس معه غير سيفه، فنحر رجل من المسلمين جزوراً فسأله المددي طائفة من جلده فأعطاه إياه، فاتخذه كهيئة الدرق].

أي: أن هذا المددي لم يكن معه إلا سيفه، وأن رجلاً من المسلمين نحر جزوراً فطلب منه قطعة من الجلد ليتخذها كهيئة الدرق، أي: كالترس الذي يقي به السهام، وذلك بأن يجعله ييبس ليكون غليظاً قاسياً.

قوله: [ومضينا فلقينا جموع الروم، وفيهم رجل على فرس له أشقر عليه سرج مذهب وسلاح مذهب، فجعل الرومي يفري بالمسلمين، فقعد له المددي خلف صخرة، فمر به الرومي فعرقب فرسه فخر، وعلاه فقتله، وحاز فرسه وسلاحه].

يعني أنه لما حصل الالتقاء مع الروم كان فيهم -أي: الروم- رجل على فرس وعليه سرج مذهب ومعه سيف مذهب، فكان يفري بالمسلمين، ومعناه أنه يفتك بهم، فهذا المددي اختفى وراء صخرة، ولما مر به الرومي ضرب عراقيب فرسه فخر وقتله.

قوله: [وحاز فرسه وسلاحه].

يعني: حاز ذلك المددي الفرس الذي عليه السرج المذهب والسلاح المذهب.

وهذا محل الشاهد للترجمة، حيث قال فيها: [والفرس والسلاح من السلب]؛ لأنه حاز ذلك السلب الذي هو الفرس والسلاح.

قوله: [فلما فتح الله عز وجل للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ من السلب، قال عوف: فأتيته فقلت: يا خالد! أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟].

يعني: لما حصل النصر للمسلمين على أعدائهم الروم أخذ خالد من ذلك السلب الذي مع المددي لأنه استكثره، فـ عوف بن مالك الذي كان قد رافق هذا المددي قال: [أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟] فأخبره بأنه استكثر ذلك، فأراد أن يكون للمسلمين شيء من ذلك.

قوله: [قلت: لتردنه عليه أو لأعرفنكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فأبى أن يرد عليه].

يعني بذلك أنه عندما يلتقي مع خالد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه سيخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما حصل وبما فعله خالد من أخذ ذلك السلب من القاتل.

قوله: [قال عوف: فاجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصصت عليه قصة المددي وما فعل خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا خالد! ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رسول الله! لقد استكثرته.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا خالد! رد عليه ما أخذت منه)].

أي: أنهم لما التقوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عوف بإبلاغ الرسول عليه الصلاة والسلام، بما قد حصل، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكتف بهذا الخبر، بل استوثق من خالد وقال: (ما حملك على ما صنعت؟ فقال: استكثرته يا رسول الله.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ خالد: رد عليه ذلك الذي أخذته منه).

أي: السلب.

قوله: [فقال عوف: قلت له: دونك يا خالد! ألم أف لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذلك؟].

أي: أنه لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم برد السلب على القاتل المددي قال عوف لـ خالد يخاطبه عند النبي صلى الله عليه وسلم: [ألم أف لك؟] يعني: ألم أف بالكلام حين قلت لك بأنني سأعرفنكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ومعناه: إنني توعدتك، وقد وفيت بما توعدتك به، فقد أخبرت بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رد السلب.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [(وما ذلك؟)].

وهذا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، ولا يعلم الغيب على الإطلاق إلا الله سبحانه وتعالى، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب على الإطلاق لما خفي عليه الذي جرى بين خالد وبين عوف بن مالك، وهذا من جملة الوقائع الكثيرة التي تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، وقد أطلعه الله على كثير من الغيوب، لكنه ما أطلعه على كل غيب، ولهذا فإن الذين يغلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصفونه بأنه يعلم الغيب لم يحالفهم الصواب، بل أخطئوا، والله عز وجل أمر نبيه بأن يقول: {لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام:٥٠]، وقال: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ} [الأعراف:١٨٨] وقد حصلت وقائع كثيرة في الدنيا تدل على أنه لا يعلم الغيب، منها هذا الذي معنا، وكذلك مسألة العقد الذي كان لـ عائشة، فقد مكثوا يبحثون عنه مع أنه كان تحت الجمل الذي تركب عليه عائشة، ومع ذلك ما عرفوا أنه تحت الجمل إلا لما بحثوا عنه فلم يجدوه ثم أرادوا الرحيل فقام الجمل وإذا العقد تحته.

وكذلك في مسألة الإفك حين رميت عائشة بما رميت به من الإفك، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها: (إن كنت ألممت بذنب فتوبي إلى الله واستغفري) ولو كان يعلم الغيب من أول وهلة لقال للذين اتهموها: أنا أعلم الغيب، وأعلم أنه ما حصل منها شيء، فهي بريئة، ولم يعلم براءتها إلا بعد ما نزل القرآن بتبرئتها في آيات تتلى في أول سورة النور.

وأما بالنسبة للآخرة فقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يذاد ناس عن الحوض، وأنه يقول: (أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك).

فهذا يدل على أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، وقد أطلعه الله على كثير من الغيوب، وقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة، وهي من دلائل نبوته، ومنها ما مر بنا في كونه أطلع على الكتاب الذي ذهبت به المرأة من قبل حاطب بن أبي بلتعة إلى كفار

<<  <  ج:
ص:  >  >>