[شرح حديث (نهي النبي عن كلام الثلاثة الذين خلفوا)]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن السرح أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب وأخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك -وكان قائد كعب من بنيه حين عمي- قال:(سمعت كعب بن مالك وذكر ابن السرح قصة تخلفه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك، قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة، حتى إذا طال عليَّ تسورت جدار حائط أبي قتادة -وهو ابن عمي-، فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام! ثم ساق خبر تنزيل توبته)].
ذكر حديث كعب بن مالك رضي الله عنه المتعلق بتخلفه عن غزوة تبوك، وقد استنفر الرسول صلى الله عليه وسلم الناس، وأمرهم بالخروج، على ألا يتخلف إلا معذور، وقد تخلف هؤلاء الثلاثة وهم غير معذورين، فهجرهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمر الناس بعدم مخاطبتهم، فحصل لهم ما حصل، ومكثوا على تلك الحال خمسين يوماً، ثم أنزل الله توبته عليهم، ومحل الشاهد من هذا الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تركهم خمسين ليلة، وأمر الصحابة بهجرهم وتركهم وعدم مخاطبتهم، حتى كانوا لا يردون عليهم السلام، وذلك للمعصية التي وقعوا فيها، وهي: تخلفهم عن غزوة تبوك بغير عذر، ولكنهم كانوا أهل صدق، فنجاهم الله تعالى بصدقهم، ولما أنزل الله توبته عليهم عاد حالهم إلى ما كانوا عليه من قبل، فالتوبة تجب ما قبلها، وأنزل الله تعالى فيهم قرآناً يتلى في سورة التوبة وهو قوله:{وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[التوبة:١١٨]، فتاب الله عليهم ونجاهم بصدقهم، ولهذا فـ كعب بن مالك رضي الله عنه لما دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: لماذا تخلفت؟ قال مقالة عظيمة وهي: إنني قد أوتيت جدلاً، ولو كنت مع أحد غيرك من أهل الدنيا لأمكنني أن أتخلص منه، ولكن أما أنت فلو حدثتك بشيء خلاف الواقع فإن الوحي سينزل بتكذيبي، وإنني لا أكلمك إلا بالصدق، فكلمه بالصدق، وأخبره بالذي قد حصل، وأنه لم يكن له عذر، وأنه حصل منه التسويف والتأخر حتى حصل ما حصل، وقدر الله وما شاء فعل.
وتركهم الرسول صلى الله عليه وسلم مدة خمسين ليلة، وهذا يدل على أن هجر المبتدع لا يتقيد ولا يتحدد بوقت، وأما الحديث الذي جاء فيه النهي عن الهجر فوق ثلاث فإنما هو لأمور الدنيا وليس من أجل الدين، وأما إذا كان من أجل الدين فإنه يستمر حتى تحصل المنفعة والفائدة من ورائه إذا كان يترتب على ذلك فائدة.
يقول الخطابي رحمه الله: وفيه دلالة على أنه لا يحرج المرء بترك رد سلام أهل الأهواء والبدع.
أقول: ولا يصير رد السلام في هذه الحالة واجباً، فقد جاء في حديث كعب بن مالك أنه كان يسلم ولا يردون عليه السلام، كما في هذا الحديث الذي معنا، فقد ذكر أنه تسلق على حائط أبي قتادة الأنصاري -وهو ابن عمه- فسلم عليه فلم يرد عليه السلام، وكذلك جاء عنه في الحديث الطويل أنه كان يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيسلم عليه، فينظر إلى شفتيه هل حركهما أو لم يحركهما.
وفيه دليل أيضاً على أن من حلف على ألا يكلم رجلاً فسلم عليه، أو رد عليه السلام كان حانثاً؛ لأن هذا كلام، فتلزمه الكفارة.