للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[موافقات عمر للشرع وإلهاماته]

جاء في بعض الروايات الصحيحة أن عمر رضي الله عنه هو الذي اقترح على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى, فنزل القرآن مطابقاً لما أشار به عمر رضي الله عنه، وهذه من المسائل التي يقولون عنها: موافقات عمر رضي الله عنه، أي: أنه يقول القول ثم ينزل القرآن مطابقاً له، فأطلق على ذلك موافقات عمر، وهي عديدة منها هذا الموضع.

ومنها: اقتراحه على النبي عليه الصلاة والسلام أن يحجب نساءه، ومنها: عدم أخذ الفداء في أسارى بدر.

وهذا مما بينه النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (قد كان في الأمم قبلكم محدثون؛ فإن يكن من أمتي أحد فإنه عمر)، والملهَم أو المحدَّث هو: من يقول الشيء فيكون مطابقاً للصواب وللحق، وهذا شأن عمر رضي الله عنه في هذه المسائل، وكذلك أيضاً كان يحصل منه الشيء فيأتي في السنة ما يدل عليه، ومن أمثلة ذلك أنه رضي الله عنه لما ذهب إلى الشام ولقيه أبو عبيدة بن الجراح وأمراء الأجناد في أثناء الطريق بعدما قرب من بلاد الشام فقالوا له: إن الطاعون قد وقع في الشام ولا نرى أن تدخل بالصحابة على الطاعون، فتعرضهم للفناء، وبعض الصحابة ومنهم أبو عبيدة كان يرى أنه يدخل ولا يرجع، فـ عمر رضي الله عنه استشار ثلاث طوائف من الناس، فقال لـ ابن عباس: ادع لي المهاجرين، فجاء إليه المهاجرون واستشارهم وانقسموا قسمين: منهم من يقول: ادخل ولا تفر من قدر الله, ومنهم من يقول: لا تدخل بالصحابة على الطاعون فيكون ذلك سبباً في موتهم, فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي الأنصار، فدعا له الأنصار، فجاءوا إليه وسألهم، وأجابوا بجواب المهاجرين, وانقسموا قسمين، ثم قال: ادع لي مسلمة الفتح وهم الذين أسلموا عام الفتح وهاجروا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الفتح، فدعاهم فاستشارهم فاتفق رأيهم على أنه يرجع، ولم يختلفوا كما اختلف المهاجرون والأنصار، ثم ترجح عند عمر رضي الله عنه الرجوع، وقال: إني مصبح على ظهر، أي: إذا جاء الصباح أركب بعيري وأمشي, فـ أبو عبيدة وهو من الذين لا يرون الرجوع ويرون الدخول قال: أتفر من قدر الله يا أمير المؤمنين؟! قال: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نفر من قدر الله إلى قدر الله, ثم أتى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وقد كان معهم ولكنه تغيب لحاجة من الحاجات، فجاء وعلم بالذي حصل من المشاورة، فقال: عندي فيها علم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع الطاعون وأنتم في بلد فلا تخرجوا فراراً منه، وإن كنتم خارجها فلا تدخلوا عليه).

فبلغ ذلك عمر فسر؛ لأن اجتهاده جاء مطابقاً لما جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا مصداق ما جاء عن النبي الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه: (إن يكن في هذه الأمة منهم أحد فإنه عمر) والحديث صحيح.

فالملهَم هو الذي يجري الصواب على لسانه، ويقول الشيء فيكون موافقاً للصواب، ولا يعني ذلك أنه إذا اختلف الصحابة مع عمر أن الحق يكون مع عمر دائماً وأبداً، فأحياناً قد يكون الحق والصواب مع غيره، ولكن عمر رضي الله عنه إصابته كثيرة، وموافقته للأدلة كثيرة خصوصاً فيما لم يبلغه فيه دليل واجتهد فيه، وقد يكون الحق مع غيره، وبعض المسائل يختلف فيها هو وأبو بكر وغيره من الصحابة فيكون الحق والصواب مع أبي بكر.

وأورد أبو داود حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:١٢٥]].

وهذه هي قراءة الجمهور، والقراءة الثانية وهي قراءة ثابتة وهي بالفتح على الماضي، وهذه بالأمر.

والماضي إخبار عن أنهم اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى.

<<  <  ج:
ص:  >  >>