[حكم تزويج أصحاب المهن الرديئة]
وأورد أبو داود رحمه الله تحت هذه الترجمة حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن أبا هند حجم النبي صلى الله عليه وسلم في اليافوخ)، واليافوخ هو الذي يكون فيه مجتمع ملتقى مقدم الرأس مع مؤخره، ويكون رقيقاً حال الأشهر الأولى من الولادة، فإذا كبر المولود ضخم واشتد حتى يصير مثل بقية الرأس، ولكنه في حال الصغر عندما يولد المولود إذا لمسه الإنسان يجد شيئاً رقيقاً ليس مثل بقية الرأس، فهذا يقال له: اليافوخ.
فـ أبو هند حجم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المكان.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: [(يا بني بياضة! أنكحوا أبا هند وانكحوا إليه)].
يعني: زوجوه وتزوجوا منه.
وهذا محل الشاهد للترجمة؛ لأنه حجام، وهي مهنة ليست بشريفة، فليست من المهن الشريفة، بل هي من المهن الدنيئة، وذلك لأن لها علاقة بالدم، وكانوا فيما مضى يعتبرون الحجامة فيها شيء من عدم النظافة؛ لأنه يمص المحاجم، وقد يدخل الدم السيئ الفاسد إلى حلقه بسبب هذا المص، ولهذا جاء في الحديث: (أفطر الحاجم والمحجوم)؛ لأن الحاجم قد يفطر بسبب المص الذي قد يصل إلى حلقه.
ثم بعد ذلك استخدمت الآلات التي يحجم بها بدون مص، وعلى هذا يفطر المحجوم دون الحاجم.
فلما كانت الحجامة فيها مص وقد ينتقل إليه شيء من الدم الفاسد اعتبرت مهنته مهنة سيئة ومهنة رديئة.
لهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (كسب الحجام خبيث) يعني: رديء، وليس معناه أنه محرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم واعطى الحجام أجره، ولو كان حراماً لم يعطه، ولكن وصفه بأنه خبيث معناه أنه ليس من المكاسب الشريفة، بل من المكاسب الرديئة، كما قال الله عز وجل: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة:٢٦٧] يعني الرديء، فقوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ} [البقرة:٢٦٧] يعني: رديء الطعام ورديء الأشياء.
فالخبث لا يطلق على المحرم فقط، بل قد يطلق على الشيء الرديء من الشيء المباح الذي لا حرمة فيه، ومنه قوله: (كسب الحجام خبيث)، ولا يلزم من ذلك أنه محرم؛ يقول ابن عباس: ولو كان حراماً لم يعطه.
إذاً قوله: (خبيث) أي: رديء.
وقوله صلى الله عليه وسلم: [(يا بني بياضة! أنكحوا أبا هند)] معناه أنه ليس من أنفسهم، وكأنه مولىً لهم؛ لأنه إذا كان مولى يقال له: مولاهم، وإذا كان منهم قيل: من أنفسهم.
مثلما قالوا في ترجمة البخاري ومسلم، حيث يقولون في مسلم: مسلم بن الحجاج القشيري، ثم يقولون بعد القشيري: (من أنفسهم) أي أنه منهم، فنسبته إليهم نسبة أصل.
ولهذا يميز بين نسبة الأصل بأن يقال: (من أنفسهم) ونسبة الولاء بأن يقال: (مولاهم).
وفي ترجمة البخاري يقال: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن بردزبه البخاري الجعفي، مولاهم.
أي: مولى الجعفيين، فنسبته إلى الجعفيين نسبة ولاء وليست نسبة أصل، وأما نسبة مسلم إلى القشيريين فهي نسبة أصل.