[شرح حديث الجساسة من طريق ثانية]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا حجاج بن أبي يعقوب حدثنا عبد الصمد حدثنا أبي قال: سمعت حسيناً المعلم قال: حدثنا عبد الله بن بريدة حدثنا عامر بن شراحيل الشعبي عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: (سمعت منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي: أن الصلاة جامعة؛ فخرجت فصليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته جلس على المنبر وهو يضحك، قال: ليلزم كل إنسان مصلاه ثم قال: هل تدرون لم جمعتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إني ما جمعتكم لرهبة ولا رغبة، ولكن جمعتكم أن تميماً الداري كان رجلاً نصرانياً فجاء فبايع وأسلم، وحدثني حديثاً وافق الذي حدثتكم عن الدجال، حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً من لخم وجذام، فلعب بهم الموج شهراً في البحر، وأرفئوا إلى جزيرة حين مغرب الشمس، فجلسوا في أقرب السفينة، فدخلوا الجزيرة فلقيتهم دابة أهلب كثيرة الشعر قالوا: ويلك ما أنت؟ قالت: أنا الجساسة، انطلقوا إلى هذا الرجل في هذا الدير، فإنه إلى خبركم بالأشواق، قال: لما سمت لنا رجلاً فرقنا منها أن تكون شيطانة، فانطلقنا سراعاً حتى دخلنا الدير، فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقاً وأشده وثاقاً، مجموعة يداه إلى عنقه، فذكر الحديث، وسألهم عن نخل بيسان، وعن عين زغر، وعن النبي الأمي قال: إني أنا المسيح، وإنه يوشك أن يؤذن لي في الخروج، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وإنه في بحر الشام أو بحر اليمن، لا بل من قبل المشرق ما هو مرتين، وأومأ يبده قبل المشرق، قالت: حفظت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وساق الحديث)].
أورد أبو داود حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها في قصة الدجال والجساسة، وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمران ينادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس وصلى بهم، ثم قام وجلس على المنبر وهو يضحك، فقال: إني ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة)، يعني: لا تترغيب ولا لترهيب، لا لأمر يرغب فيه أو يرهب منه، وإنما للإخبار بشيء قد حصل، وهو أن تميماً الداري كان نصرانياً وأسلم، وأنه حدثه بحديث كان مماثلاً ومطابقاً لما كان قد حدثهم به، وذلك أنهم كانوا في البحر، فقذفت بهم الأمواج إلى جزيرة، فنزلوا فيها ورأوا دابة أهلب -يعني: كثيرة الشعر- وقالت: أنا الجساسة، اذهبوا إلى هذا رجل في ذلك الدير؛ فإنه إلى خبركم بالأشواق تعني: أنه شديد الشوق إليكم وإلى معرفة أخباركم- فذهبوا إليه ورأوه موثق بالحديد، وذكروا صفة توثيقه بالحديد، ثم بعد ذلك سألهم عن نخل بيسان، وعن عين زغر، ثم سألهم عن النبي وخروجه، فأخبروه بذلك فقال لهم: إنه هو الدجال، وأنه يوشك أن يؤذن له بالخروج، على الناس، فيحصل منه ذلك الشيء الذي جاءت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث يدل على وجود الدجال وأنه موثق بتلك الجزيرة، وأنه يخرج في آخر الزمان عندما يؤذن له بالخروج، وهو مخصص لحديث: (أنه لن يأتي مائة سنة وهناك على ظهر الأرض نفس)، فيكون هذا الحديث مخصص للجساسة، والدجال من ذلك، وأنه موجود، وسيخرج في آخر الزمان، فيكون ما جاء في حديث الجساسة والدجال مستثنى من عموم ذلك الحديث.
فإن قيل: ألا تدخل الجساسة والحور العين، والملائكة، والجن وأشياء كثيرة من خلق الله مما كتب الله لها البقاء ألا تدخل هذه كلها في هذا الحديث؟ فيقال: لا؛ لأن المقصود بهذا الحديث الإنس، ومعلوم أن الدجال من بني آدم، وأما الجن والملائكة فهم عالم آخر، فيعمرون ويبقون فترة طويلة، وهذا ما فيه إشكال بالنسبة للملائكة، وأما بالنسبة للجن الله أعلم لا نعلم يعني مدة أعمارهم، ولكن الكلام على بني آدم.
وأما الجساسة فلا ندري هل تبقى أو ما تبقى؟! قوله: [عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: (سمعت منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي أن الصلاة جامعة فخرجت فصليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
وهذه الصلاة التي نودي لها والله الذي يبدو أنها ليست فريضة، كأنها والله أعلم نافلة؛ لأن الفريضة لا ينادى لها الصلاة جامعة، وإنما ينادى بالأذان.
قوله: [(فخرجت فصليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته جلس على المنبر وهو يضحك)].
وليست هذه خطبة، وإنما حدثهم بهذه القصة وهو على المنبر، وكأن جلوسه على المنبر حتى يروه ويشاهدوه، وأما خطبة الجمعة فإنها لا تكون إلا عن قيام، وليس للإنسان أن يجلس فيها.
قوله: [(قال: ليلزم كل إنسان مصلاه، ثم قال: هل تدرون لم جمعتكم؟)].
وهذا يبين بأن هذه الصلاة ليست صلاة فريضة، فإنه قال: (ليلزم كل مصل مكانه، ثم قال: هل تدرون لماذا جمعتكم) أي: أنه جمعهم ليحدثهم بهذا الحديث.
قوله: [(قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إني ما جمعتكم لرهبة ولا رغبة، ولكن جمعتكم أن تميماً الداري كان رجلاً نصرانياً فجاء فبايع وأسلم، وحدثني حديثاً وافق الذي حدثتكم عن الدجال)].
وهذا يعني أن تميم الداري رأى هذا في حال كفره وقبل إسلامه، فيكون مما تحمله في كفره وأداه وحدث به بعد إسلامه.
قوله: (حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً من لخم وجذام فلعب بهم الموج شهراً في البحر)].
أي: أن الأمواج تلعبت بهم حتى قذفتهم إلى الجزيرة.
قوله: [(وأرفئوا إلى جزيرة حين مغرب الشمس)].
معناه: أنهم مالوا إليها ليربطوا السفينة حتى ينزلوا الأشياء الثقيلة التي تمسكها لئلا تذهب، ويكون ذلك قريباً من الجزيرة، ثم ركبوا القوارب الصغيرة التي ينتقلون بها من السفينة إلى البر.
قوله: (فجلسوا في أقرب السفينة فدخلوا الجزيرة، فلقيتهم دابة أهلب كثيرة الشعر، قالوا: ويلك ما أنت؟ قالت أنا الجساسة)].
وهذ ليس فيه شيء يدل على أنا دابة الأرض التي تكلم الناس كما في سورة النمل، بل هي دابة من الدواب.
قوله: (انطلقوا إلى هذا الرجل في هذا الدير)].
الدير: مكان عبادة عند النصارى واليهود.
قوله: (فإنه إلى خبركم بالأشواق قال)].
أي: أنه مشتاق إلى أخباركم.
قوله: (قال: لما سمت لنا رجلاً فرقنا منها أن تكون شيطانة)].
وهذا قد يفهم منه أنها امرأة، لأنها لو كانت على شكل آخر غريب لكان الخوف أشد، لكن قالوا: (فرقنا أن تكون شيطانة) الفرق هو الخوف.
ومعلوم أن شياطين الجن يتشكلون على صور الإنس، كما أنهم يأتون على صور الحيوانات، وكذلك الملائكة يحصل منهم التشكل على صورة الإنسان، فالملائكة يأتون بصورة الإنسان، وصاحب أبي هريرة الذي كان يأخذ الطعام كان من الجن، وقد جاء على صورة إنسان، والملائكة الذين كانوا ضيوف إبراهيم جاءوا على صورة رجال حسان، وجبريل جاء إلى مريم بصورة بشر، وكذلك جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام بصورة دحية بن خليفة الكلبي وجاء بصورة رجل غير معروف كما في حديث جبريل المشهور.
قوله: (فانطلقنا سراعاً حتى دخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقاً وأشده وثاقاً، مجموعة يداه إلى عنقه، فذكر الحديث وسألهم عن نخل بيسان، وعن عين زغر، وعن النبي الأمي)].
(بيسان) هي مدينة في الأردن في الغور الشامي، يقال: هي لسان الأرض، وهي بين حوران وفلسطين بها عين الفلوس، وهي عين فيها ملوحة يسيرة، وتوصف بكثرة النخل، قال ياقوت: وقد رأيتها مراراً فلم أر فيها غير نخلتين حائلتين، وهو من علامات خروج الدجال.
(وعين زغر) قال ياقوت: حدثني الثقة أن زغر هذه في طرف البحيرة المنتنة في واد هناك، بينها وبين بيت المقدس ثلاثة أيام، وهي من ناحية الحجاز، ولهم هناك زروع.
قوله: (قال: إني أنا المسيح وإنه يوشك أن يؤذن لي في الخروج، قال النبي صلى الله عليه وعلى وسلم: وإنه في بحر الشام أو بحر اليمن، لا، بل من قبل المشرق ما هو مرتين، وأومأ يبده قبل المشرق، قالت: حفظت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وساق الحديث)].
قال: إنه في بحر الشام أو بحر اليمن، ثم قال: لا، بل الأقرب أنه إلى جهة المشرق، وأشار إليه مرتين: قوله: (من قبل المشرق ما هو) يعني: أنه أقرب إلى جهة المشرق، وأما حرف (ما) فإنهم يسمونه صلة، أي يؤتى به صلة في الكلام وليست نافية، وهي نظير ما جاء في القرآن، {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ) [فصلت:٢٠] أي: حتى إذا جاءوها، {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ) [فصلت:٢٠].
ومعناه هنا: إلى جهة الشرق هو، وتكون (ما) صلة زائدة وليست نافية.
وقوله: (وإنه في بحر الشام أو بحر، اليمن لا) هذا إضراب، فكأنه قبل كان متردداً هل هو هنا أو هنا، ولكنه بعد ذلك أخبر بأنه في جهة الشرق.
قوله: [(لا، بل من قبل المشرق ما هو، مرتين)].
حرف (ما) هنا جاء صلة، وهو من جنس: ((حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ))، ومن جنس: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد:٢٩] حرف لا {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد:٢٩] ومن جنس: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف:١٢] أي: أن تسجد، فحرف (ما) وحرف (لا) قد يأتيان صلة في الكلام.