شرح حديث (لبن الدر يحلب بنفقته إذا كان مرهوناً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرهن.
حدثنا هناد عن ابن المبارك عن زكريا عن الشعبي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لبن الدر يحلب بنفقته إذا كان مرهوناً، والظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويحلب النفقة)].
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب في الرهن، والرهن هو: أن يأخذ البائع من المشتري سلعة إلى أجل، فهي عين يستوثق بها في حقه حتى إذا لم يحصل الوفاء عند حلول الأجل تباع العين المرهونة ويأخذ حقه منها، وإذا بقي شيء فإنه يكون لصاحب العين.
فالرهن هو توثقة دين بعين، أي: أن العين تؤخذ من أجل الاطمئنان على حصول الدين ممن كان عليه ذلك الدين، فهو دين في ذمة يستوثق منه بعين مرهونة، والرهن جاء ذكره في القرآن في السفر، وجاء في السنة في الحضر، قال الله عز وجل: {وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:٢٨٣]، يعني: أن الشيء الذي يكون في الذمة يقبض عليه رهن إذا احتاج الأمر إلى ذلك.
وفي السنة جاء حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الذي أورده أبو داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لبن الدر يحلب بنفقته إذا كان مرهوناً)، يعني: إذا كانت الدابة مرهونة بيد المرتهن، فهو يحلبها في مقابل نفقته عليها؛ لأنها تحتاج إلى نفقة، فإذا أنفق عليها فإنه يأخذ الحليب في مقابل النفقة.
قوله: (والظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً)، مثلاً البعير أو الحمار التي يركب عليها فإنه يركب المرتهن عليها في مقابل ما ينفقه عليها من النفقة.
وهذا الحديث يدل على أن المرتهن يستفيد من الرهن في مقابل ما يحتاج إليه من العلف والحلب والركوب، فإن ذلك الركوب والحليب يكون في مقابل الانتفاع به، فكما أنه ينفق على الشاة ذات اللبن فإن ذلك إنفاق في مقابل الحليب، والمرهون إذا كان دابة مركوبة فذلك الركوب في مقابل الإنفاق، والمقصود بالذي يركب ويحلب هو المرتهن، أي: الذي أخذ العين ليستوثق بها عن الدين في مقابل النفقة، وهو يدل على أن الرهن ممكن أن يكون بيد المرتهن إذا لم يقبل إلا أن يكون في يده.
وقوله: (يحلب ويركب إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويحلب النفقة)، هذا إنما يكون في حق المرتهن، وأما الراهن فلا حاجة إلى أن يقال له: إنه بنفقته إذا كان مرهوناً؛ لأن الراهن هو المالك، فكونه ينفق عليه فإنما ينفق على ملكه، وأما المرتهن فلا ينفق على ملكه وإنما ينفق على ملك غيره، وهذا الإنفاق الذي ينفقه يأخذ مقابله فيستفيد في الركوب أو الحلب.
وقد يكون الذي يركب ويحلب شخص ثالث جعلت وديعة عنده، يعني: فلا هي عند الراهن ولا عند المرتهن ولكنها جعلت وديعة عند شخص، فهذا الذي استودعت عنده أيضاً له أن يحلب ويركب في مقابل النفقة التي ينفقها.
قوله: (وعلى الذي يركب ويحلب النفقة) سواءً كان هو المرتهن أو طرف ثالث اتفقا على أن يكون الرهن وديعة عنده، فإذا كان مما يحلب ويركب فحلب ما يُحلب وركب ما يُركب فإنه يكون ذلك في مقابل الإنفاق عليه، وهو يدل على أن الرهن يمكن أن يكون بيد المرتهن، ويمكن أن يكون بيد الراهن إذا اتفاقا على ذلك، ولكن لا يجوز للراهن أن يتصرف فيه بالبيع، وأما أن يتصرف فيه بالركوب أو بالإجارة أو غير ذلك فهذا لا بأس به.
وله أن يؤجره إذا كان بيد المالك له؛ لأن الرهن على العين وليس على المنفعة، فالمنفعة ملك للراهن الذي هو مالكها، فله أن يؤجرها ولكن ليس له أن يبيعها؛ لأن الحق متعلق بالعين وليس بالمنفعة، فالمنفعة يمكن أن تؤجر والعين لا تباع.
والمسألة فيها خلاف بين أهل العلم: فمنهم من قال: إن الرهن يكون بيد الراهن، ومنهم من يقول: إن الرهن يكون بيد المرتهن، ولكن الحديث فيه أن على الذي يحلب النفقة، ومعلوم أن هذا إنما يكون في حق غير المالك، وأما المالك فهذا الأصل في حقه.