[شرح حديث (وقد أغار نبي الله على بني المصطلق وهم غارون)]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في دعاء المشركين.
حدثنا سعيد بن منصور حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أخبرنا ابن عون قال: كتبت إلى نافع أسأله عن دعاء المشركين عند القتال، فكتب إلي: (أن ذلك كان في أول الإسلام، وقد أغار نبي الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم، وسبى سبيهم، وأصاب يومئذ جويرية بنت الحارث رضي الله عنها) حدثني بذلك عبد الله وكان في ذلك الجيش].
أورد أبو داود هذه الترجمة، وهي: باب في دعاء المشركين.
وقد سبق نظير هذه الترجمة فيما مضى، وتلك الترجمة أورد فيها أنهم يدعون إلى الإسلام، وأورد في حديث بريدة بن الحصيب الذي فيه: (إذا لقيت عدوك المشركين فادعهم إلى ثلاثة خصال أو خلال وادعهم إلى الإسلام ثم إلى الجزية ثم قاتلهم) وهنا أورد نفس الترجمة، إلا أن تلك الترجمة في كونهم يدعون قبل القتال، وفي هذه الترجمة أنهم لا يدعون، وإنما يقاتلون بدون دعوة لهم، وذلك أن الدعوة في حق من لم تبلغهم متعينة، وأما من بلغتهم فإنها تكون مستحبة ولا تكون واجبة، لأن عندهم علم سابق بالشيء الذي يقاتل الناس عليه، والشيء الذي يغزون من أجله.
فعلى هذا يكون معنى الترجمتين وإن كانتا بلفظ واحد: أن الترجمة الأولى في كونهم يدعون، وذلك في حال الوجوب حيث لم تصل إليهم الدعوة ولم تبلغهم، فيدعون إلى الشيء الذي يقاتلون عليه، وأما إذا بلغتهم الدعوة، وعرفوا أن المسلمين يغزون الكفار من أجل أن يدخلوا في دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فهنا لا تكون الدعوة واجبة ولكنها مستحبة، إن أتي بها فحسن وهو تأكيد، وإن لم يؤت بها فإن الأصل موجود من قبل.
فالترجمة السابقة فيها حصول الدعوة، وأنه لا قتال قبل الدعوة، والترجمة اللاحقة فيها أن القتال يكون بدون دعوة؛ لأنه قد سبق أن حصلت الدعوة، فكان قتالهم ليس خالياً من الدعوة أصلاً، ولكن الدعوة موجودة من قبل فاكتفي بها، وإن أتي بها فهي مستحبة، أي: كونهم يدعون مرة أخرى.
أورد أبو داود حديث عبد الله بن عون أنه كتب إلى نافع مولى ابن عمر يسأله عن دعاء المشركين عند القتال يعني: هل يدعون أو لا يدعون، فكتب إليه أن هذا -أي: الدعاء- كان في أول الإسلام حيث كان الناس لا يعرفون البعثة والرسالة، فكان يقاتلهم صلى الله عليه وسلم ويغزوهم في بلادهم ويدعوهم، أما بعد ذلك فإنه حصل من النبي صلى الله عليه وسلم أنه أغار على بعض الجهات التي غزاها صلى الله عليه وسلم دون أن يدعوهم، وذلك لسبق الدعوة، ولوجود الشيء الذي يقاتلون من أجله عندهم من قبل، وهو الدخول في الدين الحنيف، وعدم دخولهم يسوغ قتالهم.
قوله: [(وقد أغار نبي الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون)].
يعني: على غرة وغفلة، وما أرسل إليهم أحداً يدعوهم لأن الدعوة موجودة من قبل، والعلم موجود عندهم من قبل، ولم يكونوا ممن لم تبلغهم الدعوة، بل بلغتهم الدعوة من قبل.
قوله: (وهم غارون)، أي: في غفلة وغرة ونعمهم تسقى على الآبار.
قوله: [(فقتل مقاتلتهم وسبى سبيهم)].
أي: قتل الذين يقاتلون، وسبى السبي الذين هم النساء والصبيان والذرية الذين ليسوا من أهل القتال.
قوله: [(وأصاب يومئذ جويرية بنت الحارث)].
أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها، إحدى زوجاته صلى الله عليه وسلم.
قوله: [حدثني بذلك عبد الله وكان في ذلك الجيش].
لما كتب له بذلك يخبره بالحديث أسنده بعد ذلك فقال: حدثني بذلك عبد الله بن عمر وكان في ذلك الجيش الذي هو في غزوة بني المصطلق.
[قال أبو داود: هذا حديث نبيل، رواه ابن عون عن نافع، ولم يشركه فيه أحد].
(هذا حديث نبيل) أي: جيد، من النبل وهو الجودة، رواه ابن عون عن نافع، ولم يشركه فيه أحد، وكما هو معلوم أن الراوي لا يؤثر انفراده فإنه يكون حجة وعمدة، ومعلوم أن هناك أحاديث كثيرة في الصحيحين وفي غيرهما جاءت من طريق واحد، وهي معتبرة، ومنها أول حديث في صحيح البخاري، وآخر حديث في صحيح البخاري، ففي فاتحة البخاري وخاتمته حديثان غريبان جاءا من طريق واحد، فالذي جاء في أول الصحيح حديث: (إنما الأعمال بالنيات) رواه عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه عن عمر: علقمة بن وقاص الليثي، وهو من كبار التابعين، ورواه عن علقمة: محمد بن إبراهيم التيمي، وهو من أوساط التابعين، ورواه عن محمد بن إبراهيم التيمي: يحيى بن سعيد الأنصاري وهو من صغار التابعين، ثم بعد ذلك كثر الرواة بعد يحيى بن سعيد، وهو من فوق يحيى بن سعيد كان غريباً، ما جاء إلا من طريق واحد.
وآخر حديث في صحيح البخاري: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم)، جاء من طريق أبي هريرة، ورواه عن أبي هريرة أبو زرعة بن عمرو بن جرير، ورواه أيضاً عنه آخر، ثم اتسع بعد ذلك.