[شرح حديث رجم المرأة الغامدية من طريق ثانية]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي أخبرنا عيسى بن يونس عن بشير بن المهاجر حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه: (أن امرأة -يعني: من غامد- أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني قد فجرت، فقال: ارجعي، فرجعت، فلما أن كان الغد أتته فقالت: لعلك أن تردني كما رددت ماعز بن مالك؟ فوالله إني لحبلى، فقال لها: ارجعي، فرجعت، فلما كان الغد أتته فقال لها: ارجعي حتى تلدي، فرجعت، فلما ولدت أتته بالصبي فقالت: هذا قد ولدته، فقال لها: ارجعي فأرضعيه حتى تفطميه، فجاءت به وقد فطمته وفي يده شيء يأكله، فأمر بالصبي فدفع إلى رجل من المسلمين، وأمر بها فحفر لها، وأمر بها فرجمت، وكان خالد فيمن يرجمها، فرجمها بحجر فوقعت قطرة من دمها على وجنته فسبها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: مهلاً يا خالد! فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، وأمر بها فصلى عليها ودفنت)].
أورد أبو داود حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه: أن امرأة من غامد، وفي رواية: من جهينة قال بعض أهل العلم: إنهما قصتان، فقصة الغامدية غير قصة الجهنية، وبعضهم قال: إنها قصة واحدة، والمرأة هي واحدة نسبت إلى جهينة في بعض الأحاديث، ونسبت إلى غامد في بعض الأحاديث، وكل من غامد وجهينة من قحطان، أي: من القبائل اليمنية، وليسوا من القبائل العدنانية، وبعضهم قال: إن غامداً هم من جهينة.
وقد قال أبو داود بعد تخريج الحديث: غامد وجهينة وبارق شيء واحد، يعني: أن المرأة هي واحدة، وهي جهنية وغامدية؛ لأن جهينة وغامداً شيء واحد، فهم من أصل واحد ومن قبيلة واحدة، ومنهم من يقول: إن غامداً من جهينة.
قوله: [(أن امرأة من غامد أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني قد فجرت فقال: ارجعي فرجعت، فلما كان الغد أتته فقالت: لعلك أن تردني كما رددت ماعز بن مالك)].
يعني: هذه المرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: إنها فجرت يعني: زنت فقال لها: ارجعي فلما رجعت وجاءت من الغد قالت: لعلك تريد أن تردني كما رددت ماعزاً؟ ومرادها من ذلك أنها تختلف عن ماعز لأن في بطنها ولداً، وأنها قد حملت من الزنا، وهذا بخلاف الرجل، فإنه ما عنده إلا الاعتراف، وأما هي فإن عندها اعترافاً وشيئاً آخر وراء الاعتراف، وهو أن في بطنها ولداً بسبب الزنا، فقالت: لعلك تريد أن تردني كما رددت ماعزاً.
ثم ينبغي أن يعلم أنه لا علاقة لـ ماعز بـ الغامدية، وأن قولها: كما رددت ماعزاً لا يدل أنه هو الذي زنى بها، فقد عرفنا أن ماعزاً زنى بجارية من الحي من قبيلته التي هي أسلم، فلا يقال: إن قولها: كما رددت ماعزاً يدل على أن مسألتهما واحدة، بل قصته غير قصتها، وليس زناه بها، وإنما زنى ماعز بن مالك بجارية من حيه وقبيلته.
وأما الغامدية فإنما أرادت أن تذكر أن ماعزاً يختلف عنها؛ لأن ماعزاً رجل ليس عنده إلا الاعتراف، وأما هي فعندها الاعتراف، وعندها شيء أكثر من الاعتراف، وهو الولد الذي في بطنها من الزنا، ومعلوم أن الولد لا يأتي إلا من نكاح أو سفاح، وهو لم يأت هنا من نكاح، فإذاً: هو سفاح، فاعترفت أنها زنت وأنها حامل من الزنا.
قوله: [قالت: (لعلك أن تردني كما رددت ماعز بن مالك؟ فوالله إني لحبلى! فقال لها: ارجعي، فرجعت، فلما كان الغد أتته فقال لها: ارجعي حتى تلدي، فرجعت، فلما ولدت أتته بالصبي فقالت: هذا قد ولدته، فقال لها: ارجعي فأرضعيه حتى تفطميه، فجاءت به وقد فطمته وفي يده شيء يأكله، فأمر بالصبي فدفع إلى رجل من المسلمين وأمر بها فحفر لها)].
ثم إن المرأة لما رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته بأنها حبلى فقال لها: (ارجعي حتى تلدي) يعني: انتظري حتى تلدي، لأنه لا يقام الحد عليها وهي حامل؛ لأن إقامة الحد عليها يتعدى إلى الجنين فيموت تبعاً لها، وهي نفس أخرى لا علاقة لها بالجريمة، وإن كانت هي نتيجة للجريمة؛ لكن لا علاقة لها من حيث الجرم، وإنما الذي حصل منه الجرم هو الذي يعاقب، والذي ما حصل منه جرم لا عقاب عليه، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمرها أن تنتظر حتى تلد ما في بطنها، ولما جاءت إليه بعد أن ولدته قالت: هذا الولد أتيت به، قال: ارجعي حتى تفطميه، فرجعت وأرضعته، ثم جاءت به وبيده شيء يأكله، يعني: إشارة إلى أنه قد استغنى عن اللبن، وأنه يأكل الطعام، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر أن يحفر لها حفرة، وهذا يدل على أن المرأة يحفر لها حفرة، حتى يكون أستر لها، فأمر بها فرجمت وهي في حفرتها حتى ماتت، ثم أمر بالصلاة عليها وصلى عليها صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: [(وأمر بها فرجمت وكان خالد فيمن يرجمها، فرجمها بحجر فوقعت قطرة من دمها على وجنته فسبها)].
وكان خالد بن الوليد رضي الله عنه من جملة الذين رجموها، ولما رجمها وقعت قطرة من دمها على وجنته يعني: طار الدم وانتشر حتى وصل إليه ووقع على وجنته فسبها.
قوله: [(فقال: مهلاً يا خالد! فوالذي نفسي بيده! لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له)].
يعني: لا تسبها فإنها تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، وهذا يدلنا على خطورة المكس، وعلى خطورة عقوبة صاحب المكس، وهو الذي يأخذ الضرائب من الناس في غير حق، فإنه يكثر خصومه يوم القيامة، ويكثر الآخذون من حسناته يوم القيامة؛ لكونه قد ظلمهم، وقد جاء في حديث المفلس الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم (أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس الذي لا درهم عنده ولا متاع)، أرادوا مفلس الدنيا، وهو عليه الصلاة والسلام أراد مفلس الآخرة، فقال: (المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام وحج، ويأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وأخذ مال هذا، وسفك دم هذا، فيعطى لهذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرح عليه ثم طرح في النار)، فهو يدل على شدة عقوبته، وعلى عظم جرمه، وذلك لكثرة خصومه وكثرة من ظلمهم، وأنهم يخاصمونه يوم القيامة ويأخذون من حسناته أو يطرح عليه من سيئاتهم، ولهذا مثل به النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: [(مهلاً يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، وأمر بها فصلى عليها ودفنت)].
يعني: هو صلى عليها ودفنت، وهذا يدل على جواز الصلاة على مرتكب الكبيرة إذا أقيم عليه الحد أو لم يقم عليه الحد، كل ذلك يصلى عليه، وكل مسلم يصلى عليه، وإنما يمكن أن يتأخر بعض الناس الذين تأخرهم يؤثر على الناس، ويكون سبباً في بعدهم عن الوقوع في مثل ذلك الذنب.