[التحذير من صيام الدهر واستحباب الاقتصار على ما يطاق من العمل]
قوله: [(قال: كيف بمن يصوم الدهر كله؟)].
انتقل السائل إلى هذا
السؤال
كيف بمن يصوم الدهر كله؟ وهذا يبين أو يدل على أن السائل عنده جانب يعني: الزيادة أو الإكثار من العمل، والنبي صلى الله عليه وسلم قد جاء عنه أنه قال: (عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا) وقال عليه الصلاة والسلام (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)، وقال: (أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل) ويقال في الحكم: (قليل تداوم عليه خير من كثير تنقطع عنه) وقد يجد الإنسان في نفسه النشاط في بعض الأوقات، فيقدم ويلزم نفسه بشيء، ثم بعد ذلك يندم أنه ألزم نفسه بشيء عجز عنه، كما جاء عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه كان كثير العبادة والصيام، ولكنه بعد ذلك جاء عنه أنه تمنى أن يكون أخذ بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالصيام وبقراءة القرآن، والحد الذي حده له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحاصل أن الإنسان قد يجد في نفسه نشاطاً فيلزم نفسه بشيء، ثم يقصر فيما التزم به، أو يعجز عن الالتزام به، ولكنه كونه يحافظ على الشيء ولو كان قليلاً هذا هو الذي يعود عليه بالمصلحة، وهو الذي فيه الإبقاء على الشيء وبالمداومة عليه وإن كان قليلاً، والمداومة على الشيء ولو كان قليلاً يكون الإنسان على صلة بالله دائماً؛ لأن الموت إذا جاءه يأتيه وهو ملازم للعبادة ولو كانت قليلة، أما إذا نشط في بعض الأحيان وأكثر ثم أهمل في بعض الأوقات فقد يأتيه الموت وهو في وقت الإهمال؛ ولهذا قيل لـ بشر الحافي: إن أقواماً يجتهدون في رمضان فإذا خرج تركوا، قال: بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان.
قوله: [(قال: كيف بمن يصوم الدهر كله؟ قال: لا صام ولا أفطر)].
يعني: لم يصم ولم يفطر؛ لأنه ما حصل منه الصيام الذي يحصل معه الإتيان بالأمور الواجبة (ولا أفطر) يعني: ولا حصل منه الارتياح في الإفطار الذي يتمكن من أداء العبادات.
وقيل: إنه دعاء عليه، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم فيمن ينشد الضالة قال: (لا ردها الله عليك) يعني: دعاء عليه بأن لا يرد الله تعالى عليه ضالته التي ينشدها في المسجد، وكذلك ما جاء في القبر من قول الملكين: (لا تليت ولا دريت).
يعني: قيل: إنه دعاء عليه، فقوله: (لا ردها الله عليك) مثل قوله: (لا صام ولا أفطر) يعني: دعاء عليه بأنه ما حصل له ذلك الشيء الذي يعود عليه بالخير.
قوله: [قال مسدد: (لم يصم ولم يفطر) أو (ما صام ولا أفطر) شك غيلان].
يعني: مسدد الذي هو أحد الشيخين شك في أنه: (لم يصم ولم يفطر) أو (لا صام ولا أفطر) وأما الشيخ الثاني الذي هو سليمان بن حرب فإنه قال: (لا صام ولا أفطر) يعني: بدون شك، وأما هذا شك: هل قال هذه الكلمات كما قال سليمان بن حرب أو قال كلمة أخرى، وهي: (لم يصم ولم يفطر).
قوله: [(قال: يا رسول الله! كيف بمن يصوم يومين ويفطر يوماً؟ قال: أويطيق ذلك أحد؟)].
يعني: معناه يصوم ثلثي الدهر، فسأله عن صيام الدهر، ثم سأله عن صيام ثلثيه، يعني: يصوم من الشهر عشرين يوماً ويترك عشرة قال: (أويطيق ذلك أحد؟) يعني: هناك مشقة في الاستمرار على ذلك، أما كونه يطيقه في شهر أو في شهرين فهذا وارد، لكن مع الدوام والاستمرار وطول الحياة فإن في ذلك مشقة.
قوله: [(قال: يا رسول الله! فكيف بمن يصوم يوماً ويفطر يوماً؟ قال: ذلك صوم داود)].
يعني: هو خير الصيام كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: حين يصوم يوماً ويفطر يوماًً فإن في ذلك ارتياحاً وصياماً، وليس صياماً مستمراً لا راحة معه، ولا إفطاراً مستمراً لا صيام معه، وإنما صوم يوم وإفطار يوم.
قوله: [(فكيف بمن يصوم يوماً ويفطر يومين؟ قال: وددت أني طوقت ذلك)].
يعني: يصوم عشرة أيام من الشهر، وكون الإنسان يلازم على صيام عشرة أيام فهو يصوم ثلث الدهر، قال: (وددت أني طوقت ذلك) قيل: معناه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لانشغاله بأهله وضيوفه، وبأعماله وبالناس يجعله لا يصوم هذا المقدار باستمرار.
وقيل: إن المقصود بذلك أمته.