للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[شرح حديث رد النبي صلى الله عليه وسلم سبي هوازن إلى أهلهم بعد مجيئهم مسلمين]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن أبي مريم حدثنا عمي -يعني سعيد بن الحكم - قال: أخبرنا الليث بن سعد عن عقيل عن ابن شهاب قال: وذكر عروة بن الزبير أن مروان والمسور بن مخرمة رضي الله عنه أخبراه (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد إليهم أموالهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: معي من ترون، وأحب الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إما السبي وإما المال.

فقالوا: نختار سبينا.

فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأثنى على الله، ثم قال: أما بعد: فإن إخوانكم هؤلاء جاءوا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل.

فقال الناس: قد طيبنا ذلك لهم يا رسول الله.

فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم.

فرجع الناس وكلمهم عرفاؤهم فأخبروا أنهم قد طيبوا وأذنوا)].

أورد أبو داود باباً في فداء الأسير بالمال، وأورد تحت هذه الترجمة عدة أحاديث.

ثم أورد أبو داود حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه ومعه مروان بن الحكم -والعمدة على المسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنه- أن وفد هوازن جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه أن يرد عليهم المال والسبي، أي: النساء والذرية والمال، فالنبي صلى الله عليه وسلم رأى أن يرد عليهم، ولكنه لم يرد عليهم كل شيء، وإنما خيرهم بين رد المال أو رد السبي، فاختاروا أن يرد عليهم السبي.

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم أن هناك شيئاً يخصه وهناك شيئاً يخص غيره، وأن كلاً قد أخذ نصيبه، فقال عليه الصلاة والسلام: [(معي من ترون)] يعني: من السبي، والذي هو لي هو لكم.

وتنازل عنه وتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما الذين عند غير النبي صلى الله عليه وسلم فقد قام في الناس وذكرهم وتكلم فيهم وقال: (إن إخوانكم جاءوا تائبين، وإني رأيت أن أرد عليهم سبيهم، فمن أراد منكم أن يتنازل بدون مقابل فليفعل، ومن لم تسمح نفسه بذلك وأراد أن يبقي على حقه ولا يتنازل عن حقه فنحن سنعوضه عنه في أول ما يفيء الله به علينا).

ومعناه أن من سمحت نفسه انتهى أمره، ومن كان متمسكاً بحقه فإنه يؤخذ منه السبي ويرد ولكنه يعوض عنه أول ما يحصل الفيء بعد ذلك، فتعالت الأصوات بقولهم: (طيبنا)، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يدري من طيب ومن لم يطيب؛ لأن الأصوات ظهرت من هنا ومن هنا، فلم يعرف من طيب ومن لم يطيب، فقال عليه الصلاة والسلام: [(إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم)] يعني الرؤساء، فكل رئيس ينفرد بالجماعة الذين يرأسهم ثم يأخذ رأيهم في ذلك ويعرف من سمح ومن لم يسمح ومن وافق ومن لم يوافق، فبعد ذلك جاء العرفاء بعد أن اجتمعوا بمرءوسيهم وأخبروا بأنهم طيبوا، وأنهم قد وافقوا وتنازلوا عن حقهم لما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم.

قوله: [ذكر عروة بن الزبير أن مروان والمسور بن مخرمة أخبراه (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد إليهم أموالهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: معي من ترون، وأحب الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إما السبي وإما المال)].

معنى قوله: [(معي من ترون)] أي: الذي يخصني والذي هو نصيبي من السبي هو لكم.

يعني أنه متنازل عنه، ولكن الذي عند غيره أراد أن يستأذن الناس فيه، فاستأذنهم وكانت النتيجة أن أذنوا، فرد إليهم سبيهم صلى الله عليه وسلم.

قوله: [(وأحب الحديث إلي أصدقه)] يعني أنه يقول ويصدق ويعد ويفي، أي: فأنا أقول لكم وأصدق فيما أقول وأعدكم وأفي بما أعد به.

قوله: [(فقالوا: نختار سبينا)].

لأنهم خيروا بين المال والسبي، فاختاروا السبي، وهو أن يرجع إليهم نساؤهم وأولادهم فيكونون طلقاء ولا يكونون سبياً وأرقاء، فهذا هو الذي فضلوه، وتركوا المال في سبيل الحصول على السبي الذي هو النساء والذرية.

قوله: [(فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأثنى على الله ثم قال: أما بعد: فإن إخوانكم هؤلاء جاءوا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل)].

معنى قوله: [(من أحب أن يطيب ذلك فليفعل)] أي: أن ينزل عن حقه بدون مقابل فليفعل.

قوله: [(ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل)].

أي: من كان منكم يريد أن يبقى على حظه من السبي ولا يتنازل عنه فنحن سنرجع لهم السبي لأننا وعدناهم بذلك، ولكن هذا الذي لم يتنازل سنعطيه بدلاً عن حقه من أول ما يفيء الله علينا.

قوله: [(فقال الناس: قد طيبنا ذلك لهم يا رسول الله)].

معناه أنه كان الاجتماع كبيراً، وخرجت الأصوات بقولهم: [طيبنا ذلك لهم يا رسول الله]، ولم يعرف من وافق ومن لم يوافق؛ لأنها قد تكون الأصوات ممن وافق، ومن لم يوافق قد يكون ساكتاً ما قال شيئاً، فالرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يقف على الحقيقة بالنسبة لكل فرد فقال: [(إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم)].

وهذا فيه دليل على اتخاذ العرفاء والرؤساء على أفراد الجيش، بحيث يكون لكل جماعة مرجع يرجعون إليه، ثم هؤلاء المراجع يكون مرجعهم أمير الجيش، وهو المرجع للجميع، ولكن الواسطة بينه وبين سائر الناس هؤلاء الرؤساء الذين هم العرفاء، والذين يعرفون من تحتهم ومن تحت رياستهم، فيأتون بأخبارهم ويبلغونهم الأمور التي يحتاجون إلى تبليغها، فهؤلاء يقال لهم: العرفاء.

وأما حديث: (لابد للناس من عريف والعريف في النار) فإنه لو ثبت محمول على ما يتعلق بالشر، وأما الحديث الذي بين أيدينا فقد ثبت فيه اتخاذ العرفاء من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو فيما يتعلق بالخير، وهو أمر تقتضيه الحاجة، لاسيما مع كثرة الناس.

وكذلك يقال في حديث (لا تكن لهم شرطياً ولا جابياً ولا عريفاً) فهو محمول على كون ذلك في أمور الشر والظلم التي لا تجوز، وأما في الخير فقد دل على الجواز الحديث الذي معنا.

ثم إن الشاهد من الحديث للترجمة بفداء الأسير بالمال قوله صلى الله عليه وسلم: [(ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل)] حيث جعل صلى الله عليه وسلم فكاك أولئك الأسرى بمقابل بدلهم من فيءٍ آخر يبذل لمن لم يرد أن يتنازل عن حقه بغير عوض.

قوله: [(فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم فأخبروا أنهم قد طيبوا وأذنوا)].

معناه أنهم كلهم قد وافقوا، وتبين أن الجميع قد وافقوا على ما أراده منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم قد نزلوا عن حقهم بدون مقابل.

<<  <  ج:
ص:  >  >>