للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الكلام في مسألة تولية العبد ولاية عامة]

ثم أمر صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بالسمع والطاعة لمن ولاه الله الأمر، فقال: (وإن عبداً) أي: وإن كان الذي تولى عليكم عبداً، وهذا مما حذف فيه كان واسمها وبقي خبرها، ومثال ذلك أيضاً: إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وهذا مما حذف فيه كان واسمها، وهذا فيه الإرشاد إلى السمع والطاعة لمن تولى ولو كان عبداً، ومن المعلوم أن الإجماع منعقد على أنه لا يجوز للعبد أن يتولى، وإنما يكون ولي الأمر حراً لا عبداً؛ لأن العبد منافعه مملوكة لسيده، ومن شأن الذي يتولى أن يكون متصرفاً بمنافعه، وأن تكون منافعه بيده وليست بيد غيره، وقد أجاب العلماء على ما ورد من الأحاديث في السمع والطاعة للمتولي وإن كان عبداً بأربعة أجوبة، أحدها: أن المقصود من ذلك أن يولي ولي الأمر عبداً على ناحية أو على قرية أو على مدينة أو على جماعة، فتكون ولايته خاصة، وتكون صادرة من ولي الأمر، فإذا ولى ولي الأمر عبداً على جماعة سواء كانوا في سفر أو كانوا في حضر فعلى أولئك الذين وُلي عليهم أن يسمعوا ويطيعوا له، وقيل في معناه: أن الشيء يذكر -وإن كان لا يحصل- من باب الإشارة إلى تحتم ولزوم ذلك الشيء لو حصل، مع أنه لا يحصل، ولهذا نظائر وأمثلة، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى مخاطباً الرسول صلى الله عليه وسلم: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:٦٥] مع أنه لا يشرك ولا يحبط عمله، وكذلك ما جاء في بعض الأحاديث من قوله صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة)، والمسجد -كما هو معلوم- لا يكون بهذا المقدار ولا بهذا الحجم، وإنما هذا على سبيل المبالغة، وقال بعض أهل العلم: إن ذلك يكون بالمشاركة، أي: ولو كانت مشاركته بشيء يسير، فيكون بناء المسجد من قبله وقبل غيره، فالمقصود أن الله تعالى يأجره على ذلك وإن كان المسجد صغيراً، وغير ذلك من الأمثلة.

وقيل: إن المقصود به أنه يكون في حال توليته حراً، ولكنه كان عبداً فيما مضى، وذلك مثل عبد طرأ عليه عتق، فيقال له عبد باعتبار ما كان، لا باعتبار الحال، وذلك مثل قول الله عز وجل: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء:٢] وقوله: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:٦]، مع أنهم لا تدفع إليهم الأموال إلا بعد البلوغ وليس قبل البلوغ، وهم يتامى قبل أن يبلغوا وأما بعده فلا، وقيل لهم يتامى حال إعطائهم باعتبار ما كان؛ لأنه في حال يتمهم لا تدفع لهم الأموال، لأنه تعالى قال {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء:٦] أي: إذا بلغ وصار رشيداً في إنفاق المال وتدبيره وعدم تضييعه وإتلافه بالسفه.

وقيل: إن المقصود من ذلك: أنه إذا تغلب وقهر الناس وصار عنده قوة وشوكة، واستتب له الأمن فإنه يُسمع له ويطاع.

وهذه الأجوبة الأربعة أجاب بها أهل العلم على ما ورد من الأحاديث في السمع والطاعة لمن تولى إذا كان عبداً، وقد انعقد الإجماع على أنه لا يجوز أن يولى العبد، فالتوفيق إذن بين ما جاء في النصوص وبين الإجماع المنعقد هو أن الحديث يفسر بأحد هذه التفسيرات.

قوله: [(وإن عبداً حبشياً) أي: وإن كان المتولي عليك عبداً حبشياً.

<<  <  ج:
ص:  >  >>