[ما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد والأحكام]
هذا الحديث يدل على مسائل كثيرة وعلى أنواع من الفقه، وقد ألف فيه الحافظ صلاح الدين العلائي كتاباً واسعاً في مجلد سماه: (نظم الفرائد فيما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد) فهو حديث مشتمل على فوائد كثيرة، ومن فوائد هذا الحديث: أن الأنبياء يحصل منهم السهو في العبادات ويحصل في الأفعال، وأما في الأقوال وما كان شأنه التبليغ فإنه لا يحصل منهم السهو؛ لأنهم مبلغون عن الله وحيه.
وأما ما يقال من أنه لا يَنْسَى وإنما يُنَسَّى ليسن، فهذا ورد فيه حديث لكنه لا يصح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، والرسول أخبر أنه ينسى كما ينسون، وهو بشر، ولكنه معصوم فيما يبلغ عن الله، وما يحصل منه من خطأ في العبادة نسياناً فإنه لا يقر عليه، بل ينبه.
وفي الحديث دليل على أن الإنسان إذا سلم من صلاته وهو يعتقد إتمامها وهي لم تتم، وحصل كلام حول إتمامها وعدم إتمامها؛ أن ذلك لا يؤثر على الصلاة، بل يعود الإنسان إلى الصلاة ولو حصل هذا الكلام ويبني على ما قد حصل.
وإذا حصل سهو في الصلاة واحتاج المأموم إلى أن ينبه الإمام لأمر سها فيه فلا يتكلم قائلاً: بقي ركعة أو بقي كذا وكذا، وإنما يقول: سبحان الله، فإن تنبه الإمام لذلك وإلا فإنه يأتي بشيء يشعر بالمطلوب كذكر شيء من القرآن، كأن يكون المطلوب ركوعاً فيقول: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:٤٣] أو سجدة فيقول: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:١٩] ونحو ذلك مما يحصل به التنبيه.
وفي الحديث دليل على ذكر الإنسان بوصفه حيث يكون مشتهراً بذلك، وهذا فيما ليس فيه تنقص أو ذكر شيء لا يرضى به الشخص، فإنه لا يذكر الشخص بشيء يكرهه ولا يرضاه، والرجل كان معروفاً بهذا الوصف وكان يلقب بهذا اللقب ويقال له: ذو اليدين؛ لأن في يديه طولاً، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: [(أصدق ذو اليدين؟)] واسمه: الخرباق، ولقب بـ ذي اليدين لأن يديه كان فيهما طول، فدل هذا على أن ذكر الإنسان بما يتميز به إذا لم يكن فيه تنقص جائز.
وفيه: أن سجود السهو يكون بعد السلام إذا كان عن زيادة في الصلاة، والزيادة التي حصلت هنا هي السلام الذي وجد في أثنائها، لأنه لا يقال: إن السهو هنا سببه النقص؛ لأن النقص قد جبر بالركعتين اللتين أتي بهما، ولكن الشيء الذي زاد هو السلام؛ لأنه حصل في الصلاة تسليم في وسطها فكان زيادة، بخلاف النقص الذي يترك مثل التشهد الأول، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قام عنه ودخل في الركعة الثالثة استمر فسجد سجدتين جبراً للنقص، وكان ذلك قبل السلام، ولكنه إذا كان السهو بزيادة فإنه يسجد للسهو بعد السلام.
وسجدتا السهو مثل سجدات الصلاة، لا يقال: إن لهما كيفية خاصة، ولا أن لهما ذكراً خاصاً، وإنما يفعل فيهما ما يفعل في سجود الصلاة، يسبح الله عز وجل ويدعى، وكذلك الجلسة بين السجدتين يدعى فيها ثم بعد ذلك يكون السلام.
والحديث ليس فيه ذكر السلام، إلا أن محمد بن سيرين قال: (نبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم) وهذا الذي قاله محمد بن سيرين أنه بلغه عن عمران بن حصين ثبت بالإسناد المتصل الذي جاء في آخر الباب، وهو يدل على أن الإنسان يسلم من سجود السهو.
قوله: (يعرف في وجهه الغضب) لعل هذا السهو الذي حصل له سببه الغضب؛ لأن الإنسان إذا كان فيه غضب قد يحصل له تشوش وقد يحصل له شيء من السهو.
قوله: (ثم خرج سرعان الناس وهم يقولون: قصرت الصلاة قصرت الصلاة).
وهؤلاء الذين خرجوا إذا كان الزمن لم يطل فإنهم يعودون مثلما عاد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإن طال الفصل وحصل وقت طويل فإنها تعاد الصلاة من أولها.
قوله: (وفي الناس أبو بكر وعمر فهاباه أن يكلماه).
لعل ذلك بسبب ما رئي في وجهه من الغضب صلى الله عليه وسلم.
قوله: (فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أصدق ذو اليدين؟) في هذا دليل على أنه إذا حصل أمر يتعلق بجماعة وأخبر شخص بخبر حضره الناس، أنه يرجع إلى الناس حتى يتحقق؛ لأنه قد يكون هذا الذي أخبر هو الواهم؛ وهذا خبر ليس مقتصراً عليه؛ بل هو خبر اشترك فيه الناس؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام ما اكتفى بقول ذي اليدين.
قوله: (فأومئوا: أي نعم) معناه: أومئوا دون أن يتكلموا.
قوله: (فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مقامه) يعني: إلى مقامه الذي كان يصلي فيه؛ لأنه تبين أن الصلاة غير كاملة، فصلى الركعتين.
وهنا لم يرد ذكر التكبير، ولا أدري هل جاء في رواية أخرى.
ومن المعلوم أنه إذا قام من الركعة الثانية قام بتكبير؛ لكن لو حصل النسيان بعد الركعة الثالثة بأن جلس بعدها وسلم، ثم تبين أنه بقي ركعة، فهنا يقوم بدون تكبير؛ لأن التكبير للانتقال من السجود قد حصل، ومعناه أنه لا يأتي بتكبير آخر؛ لأن التكبير بعد الثالثة يكون عند القيام منها وقد وجد؛ لكن حدث بعده جلوس نسياناً وسهواً.
وعلى هذا يفهم من قوله في الحديث: [(إنه قام وصلى الركعتين)] أن هناك تكبيراً؛ لأن القيام من التشهد الأول إلى الركعة الثالثة فيه تكبير، لكن القيام من الركعة الثالثة إلى الركعة الرابعة يكون الإنسان قد كبر عندما قام وجلس، وعليه فلا يعيد التكبير لو حصل السهو في القيام من ثالثة؛ لأن عدد التكبيرات في الصلاة معروف ومحصور.
قوله: (ثم سلم ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع وكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع وكبر، قال: فقيل لـ محمد: سلم في السهو؟ فقال: لم أحفظه عن أبي هريرة، ولكن نبئت أن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: ثم سلم).
هذا فيه دليل على أنه لا يوجد تشهد بعد السجدتين، لأنه ما ذكر أنه تشهد، ومعناه أنه يأتي بعد السجدتين بسلام لا يسبقه تشهد؛ لأنه لم يأت ما يدل عليه، والأصل عدمه حتى يثبت.
وقال بعض أهل العلم: إذا جلس بعد السلام يجلس للتشهد ثم يسلم، فيكون التشهد الذي بعد سجدتي السهو مسبوقاً بتشهد، والقول الصحيح أنه لا تشهد.