للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[شرح حديث (هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم)]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة قالا: حدثنا جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة؛ بمكانهم من الله تعالى، قالوا: يا رسول الله! تخبرنا من هم؟ قال: هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم على نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، وقرأ هذه الآية: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:٦٢])].

أورد أبو داود هذا الحديث وهو لا علاقة له بباب الرهن، وإنما هو في المحبة في الله وفضلها، فقال بعض أهل العلم: لعله أورده للإشارة إلى أنه ينبغي على المسلمين أن يتعاونوا ويتساعدوا فيما بينهم، وأن ييسر بعضهم على بعض، ويحسن بعضهم إلى بعض، فيقرض المسلم أخاه إذا احتاج، ويمهله في السداد، ولا يحوجه إلى أن يشتري شيئاً ثم يقوم برهن عين يملكها في مقابل ذلك الدين الذي عليه.

والواقع وكما هو واضح أنه لا علاقة له بالرهن فهو في غير مظنته، وهذا من الأحاديث التي تأتي في غير مظنتها، إذ لا يبحث عن هذا الحديث في باب الرهن، ولا مجال لأن يوجد فيه.

قال: [(إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة؛ بمكانهم من الله تعالى).

وهذا لا يعني أنهم فوق الأنبياء والشهداء، ولا يجوز أن يفهم هذا الفهم؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم أفضل الخلق وأفضل البشر، ولا يجوز أن يظن أو يتصور أن ولياً من أولياء الله يكون أفضل من نبي من أنبياء الله، أو أفضل من رسول من رسل الله، فإن الرسل بإجماع المسلمين أفضل وخير البشر.

وقوله: (يغبطهم) لا يدل على أنهم أفضل من الأنبياء، وإنما معنى ذلك أنهم يمدحونهم، ويثنون عليهم، ويعترفون بمنزلتهم، ويحصل لهم الاغتباط بما حصل لهم لا أنهم يغبطونهم لأنهم أعلى منهم أو فوقهم، فهذا لا يجوز أن يتصور، وإنما معناه ما أشرت إليه من ناحية أن الفاضل قد يغبط المفضول إذا رآه على حالة حسنة وطريقة طيبة، فيغبطه وإن كان أفضل منه، فليس بلازم أن الغابط يكون دون المغبوط، فالرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم خير وأفضل البشر، ولا يجوز أن يفهم أن غيرهم قد يكون أفضل منهم، فالأولياء لم تحصل لهم الولاية إلا باتباع الرسل، والحق والهدى الذي حصل لهم إنما تلقوه عن طريق اتباع الرسل صلوات الله وسلامه وبركاته عليهم.

ومن الكلام الذي قاله بعض الناس في هذا الزمان وهو من أسوأ وأقبح الكلام ما قاله الخميني زعيم الرافضة في هذا العصر في كتابه (الحكومة الإسلامية): وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل، فهذا والعياذ بالله من أقبح وأسوأ الكلام، فكيف يكون علي والحسن والحسين وتسعة من أولاد الحسين -وهم الأئمة الاثنا عشر عند الرافضة- كيف يكونون بهذه المنزلة التي لا يصل إليها ملك مقرب ولا نبي مرسل، فهذا من أبطل الباطل، والحديث الذي معنا ليس فيه دلالة على مثل هذا المعنى الباطل، وإنما فيه أن الرسل والشهداء يغبطونهم، وليس فيه أنهم يغبطونهم لأنهم دونهم وأنهم حصلوا على منازل أعلى من الأنبياء عند الله عز وجل، فلن يكون أحد أعلى منهم منزلة عند الله سبحانه وتعالى؛ لأن الأولياء والمتقين ما حصلوا عليه من الخير إنما حصلوه عن طريق اتباعهم للرسل، وعن طريق إيمانهم بالرسل، والرسل هم الذين تلقوا الوحي من الله عز وجل إما سماعاً لكلام الله من الله، أو جاء به الرسول الملكي إلى الرسول البشري.

أن يكون لبعض المشائخ تلميذ من التلاميذ في منزلة عالية وفهم وإدراك واستيعاب وحفظ وإتقان فيغبطه شيخه، ولا يقال: إن هذه الغبطة لا تكون إلا من الأدنى للأعلى فهو عنده ما عنده وزيادة، وقد يكون أيضاً دونه لكن لا يقال: إن كل غابط فهو دون المغبوط، فالغابط قد يكون أعلى من المغبوط كما في هذا الحديث: (إن من عباد الله لأناساً ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء).

(قالوا: يا رسول الله! تخبرنا من هم؟ قال: هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور).

ذكر هنا صفات هؤلاء التي جعلتهم يصلون إلى هذه المنزلة: أنهم تحابوا في الله ومن أجل الله، فلم يتحابوا من أجل أرحام ومصالح دنيوية متبادلة، أي: قريب يعطف على قريبه ويحبه من أجل قرابته، أو من أجل مال أعطي إياه، أو إحسان حصل، فليست هذه المحبة من أجل هذه الأمور، وإنما من أجل الله، كما جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله)، فهو يحب الله ورسوله، ويحب ما يحبه الله ورسوله ومن يحبه الله ورسوله، فتكون محابه تابعة لما يحبه الله، فليست المحبة من أجل تبادل منافع، أو صلة وقرابة، وإنما جمع بينهما الحب في الله، وفاعل ذلك أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، قال: (ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه)، فالذي جمعهم هو الحب في الله، وتفرقا على الحب في الله، فليس هناك شيء جمعهم سواه، ولا تفرقوا عنه إلى شيء سواه، ولهذا: (أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله)، وهذه صفات المؤمنين أنهم يحبون من يحب الله ورسوله وما يحبه الله ورسوله، ويبغضون ما يبغضه الله ورسوله ومن يبغضه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

قوله: (بروح الله) قيل: المقصود بالروح هنا القرآن، فالقرآن يقال له: روح، كما قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:٥٢]، يعني أنه بني على اتباع ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن الذي يحب في الله ومن أجل الله هو الذي يكون متبعاً لما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

قوله: [(فوالله! إن وجوههم لنور، وإنهم على نور).

يعني: أن وجوههم فيها إشراق وإضاءة، {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:٢٤]، وهم على نور يعني: على منابر من نور، (لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس وقرأ هذه الآية: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:٦٢]).

وأولياء الله بينهم الله بقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:٦٣] أي: أن ولاية الله عز وجل ليست شيئاً خاصاً يحصل لبعض الناس دون بعض، ويؤدي ذلك الأمر إلى أن يصرف له شيء من حق الله عز وجل ويغالى فيه، فولاية الله عز وجل تكون بالإيمان والتقوى، فمن كان متقياً لله عز وجل مؤمناً به فإنه ولي من أولياء الله، وليست الولاية حكراً على أناس معينين لا تتجاوزهم إلى غيرهم، فكل من كان مؤمناً تقياً فهو ولي لله؛ لأن الله يقول: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:٦٢ - ٦٣]، فهؤلاء هم أولياء الله، وهذا هو تعريف أولياء الله لا تعريف بعض من يدعي الولاية وتدعى له الولاية ثم يكون فوق الناس، فيصرف له الناس شيئاً مما يستحقه الله تعالى، فيغلون فيه ويتجاوزون الحدود.

إن ولاية الله عز وجل بابها مفتوح، فمن يريد أن يكون من أولياء الله فما عليه إلا أن يكون مؤمناً تقياً، فيلتزم بطاعة الله وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام، ويحذر من الوقوع في معصية الله ومعصية رسوله، وبذلك يكون من أولياء الله، وأما تلك الولاية التي تكون لشخص من الناس، والناس يقدسونه ويعظمونه ويصرفون له شيئاً لا يستحقه، ويبذلون له من الأموال بحجة أنه ولي من أولياء الله، وإذا مات ينذرون له النذور، ويتقربون إليه بأنواع من العبادات، حتى تجد بعض الناس لا يعلم لله طريقاً يوصل إليه إلا عن طريق ولي من الأولياء، والله عز وجل قريب من عباده: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:١٨٦].

ومما يدخل في حديث المحبة: محبة الحي لميت بينه وبينه قرون من الزمن كحب الصحابة والصالحين من السلف، وحب أولياء الله الحاضرين والمتقدمين، ولا شك أن هذا مطلوب، فيحب الإنسان ما يحبه الله ورسوله ومن يحبه الله ورسوله، وكل من كان مؤمناً تقياً ومعروفاً بالفضل والعلم والخير فإننا نحبه، سواء كان من المتقدمين أو من المتأخرين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>