[شرح حديث عائشة (لما نزل عذري قام النبي على المنبر فذكر ذلك وتلا)]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في حد القذف.
حدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي ومالك بن عبد الواحد المسمعي وهذا حديثه أن ابن أبي عدي حدثهم عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فذكر ذاك وتلا -تعني: القرآن- فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم)].
قوله: [باب في حد القذف]، القذف: هو الرمي بفاحشة الزنا، وحده كما جاء في القرآن ثمانون جلدة إذا لم تقم البينة على ثبوت الزنا، وإذا أقيمت البينة أقيم الحد على المتهم، فإن لم تقم البينة فإنه يحد، وذلك كله لأجل حفظ الأعراض وعدم التهاون فيها، وأن الإنسان لا يطلق لسانه في كلام قبيح يضيفه إلى الناس وهم برآء منه، فإن فعل فعقوبته أن يجلد ثمانين جلدة كما جاء ذلك في القرآن.
وقد أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فذكر ذاك وتلا -تعني: القرآن-)].
أي: الآيات التي بين الله عز وجل فيها أنها مبرأة، وأنه لم يقع منها ما اتهمت به، والنبي صلى الله عليه وسلم كان متردداً في أمرها ولم يجزم في أمرها بشيء، ولم يعلم حقيقة الأمر حتى نزل القرآن، وهذا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، وأنه لا يطلع من الغيوب إلا على ما أطلعه الله عليه؛ لأنه بقي مدة طويلة وهو متألم متأثر من هذا الذي نسب إلى أهله، فلو كان يعلم الغيب من أول وهلة لقال: أنا أعلم الغيب، هي لم يقع منها شيء، ولكنه بقي متأثراً متألماً من رمي أهله بما رموا به، ثم بعد ذلك أنزل الله آيات تتلى في سورة النور فيها براءتها مما نسب إليها رضي الله تعالى عنها وأرضاها.
فقصة الإفك هي من أوضح الأدلة على بطلان قول من يغلو في النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: إنه يعلم الغيوب، وأنه لا يخفى عليه شيء، فإن هذا من أبطل الباطل، فإن الذي اختص بعلم الغيب على الإطلاق هو الله، وغير الله لا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، والله لم يطلع نبيه على كل غيب، وإنما أطلعه على بعض الغيوب، وأخفى عليه ما شاء من الغيوب، وهذا مما يوضح ذلك، فقد حصل ما حصل والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم الحقيقة، وبعد ذلك أنزل الله تعالى البراءة، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: (يا عائشة! إن كنت ألممت بذنب فتوبي إلى الله واستغفري).
ومع أن عائشة رضي الله عنها في القمة وفي المنزلة الرفيعة وفي علو السؤدد والفضل؛ لكونها زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأم المؤمنين، وهي أوعى امرأة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أنزل الله تعالى براءتها بآيات تتلى، ومع ذلك تتواضع لله عز وجل، ولا يحصل لها عجب بذلك، بل تستهون نفسها، وتقول كما جاء في الصحيح: (فلشأني في نفسي أهون من أن ينزل في آيات تتلى)، فقد: كانت تؤمل أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه رؤيا يبرئها الله تعالى بها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (رؤيا الأنبياء وحي)، وكانت تعتقد أن نفسها أهون من أن ينزل الله فيها آيات تتلى، وهذا من التواضع، فهذا شأن أولياء الله يبلغون الكمال، ويتواضعون لله عز وجل.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه: جلاء الأفهام ترجمة مختصرة لأمهات المؤمنين جميعاً، وذكر بعض الأحاديث التي تتعلق ببعضهن وهي مشكلة وأجاب عنها، مثل زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بـ ميمونة وهي محرمة، ومثل زواجه من أم حبيبة ومن هو وليها؟ والإشكال هو أن أبا سفيان قال: أزوجك فلانة، مع أن الرسول تزوجها في حال كفر أبي سفيان، فـ ابن القيم رحمه الله أورد تراجم أمهات المؤمنين وذكر من تواضع عائشة وقال: إنها مع ما وصلت إليه من المنزلة تقول: (لشأني في نفسي أهون من أن ينزل فيّ أيات تتلى)، ثم قال: أين هذا ممن يصوم بضعة أيام ويقول: أنا كذا وكذا، أو يصلي ركعتين من الليل أو أكثر ويقول: أنا كذا وكذا؟! فهي في القمة ومع ذلك ينزل فيها القرآن وتستهون نفسها، وترى أنها لا تستحق ذلك، وهذا كما قال الله عز وجل عن أوليائه: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:٦٠].
قولها: [(لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فذكر ذاك)].
أي: ذكر الذي حصل، وهو نزول القرآن في براءتها، الآيات التي أولها: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:١١].
قوله: [(وتلا -تعني: القرآن- فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم)].
وهم: حسان ومسطح، والمرأة هي حمنة.