[شرح حديث ابن عباس في رمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الأشواط الثلاثة الأولى]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [بابٌ في الرمل.
حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا أبو عاصم الغنوي عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: قلت لـ ابن عباس رضي الله عنهما (يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم قد رمل بالبيت، وأن ذلك سنة.
قال: صدقوا وكذبوا، قلت: وما صدقوا وما كذبوا؟ قال: صدقوا، قد رمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكذبوا ليس بسنة، إن قريشاً قالت زمن الحديبية: دعوا محمداً وأصحابه حتى يموتوا موت النغف، فلما صالحوه على أن يجيئوا من العام المقبل فيقيموا بمكة ثلاثة أيام، فقدم رسول الله صلى الله عليه وآله سلم والمشركون من قبل قعيقعان، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: ارملوا بالبيت ثلاثاً، وليس بسنة.
قلت: يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طاف بين الصفا والمروة على بعيره، وأن ذلك سنة، فقال: صدقوا وكذبوا، قلت: ما صدقوا وما كذبوا؟ قال: صدقوا، قد طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة على بعيره، وكذبوا ليس بسنة؛ كان الناس لا يدفعون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا يصرفون عنه، فطاف على بعير ليسمعوا كلامه، وليروا مكانه، ولا تناله أيديهم)].
قوله: [باب في الرمل].
الرمل: هو الإسراع مع مقاربة الخطا، أي: دون الجري والعدو والركض، وإنما هو إسراع خفيف لا يحصل فيه مشقة على الإنسان، وأصل هذا الرمل أن النبي عليه الصلاة والسلام لما جاء في عمرة القضية في السنة السابعة من الهجرة، وهي العمرة التي اتفق النبي عليه الصلاة والسلام مع كفار قريش عام الحديبية أن يرجع ذلك العام ويأتي معتمراً في السنة القادمة، فقدم عليه الصلاة والسلام وكان الكفار قد جلت مجموعة منهم وراء المطاف من جهة الحجر، فكانوا يقولون: يقدم عليكم قوم وهنتهم حمى يثرب، أي: أضعفتهم حمى يثرب، ويثرب هي المدينة، فأمرهم النبي عليه الصلاة والسلام أن يرملوا في الأشواط الثلاثة الأولى، وإذا كانوا بين الركنين في الجهة التي تحجب الكعبة بينهم وبين الكفار يمشون؛ ليخففوا على أنفسهم، ولكنه عليه الصلاة والسلام بعد ذلك رمل من الحجر إلى الحجر، فدل ذلك على أنها سنة سنها رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأنه يسن لكل معتمر أن يرمل، ويسن لكل حاج عندما يقدم مكة قارناً أو مفرداً أن يرمل في طواف القدوم.
قوله: [(يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رمل بالبيت وأن ذلك سنة، قال: صدقوا وكذبوا، قلت: وما صدقوا وما كذبوا؟)] هذا الحديث عن ابن عباس لما قيل له: إن قومك يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم رمل وأنه سنة فقال: صدقوا وكذبوا، قال السائل: ما صدقوا وما كذبوا؟ قال: صدقوا في أنه رمل، وكذبوا في أنه سنة، ثم بين السبب في ذلك وهو: أنه من أجل أن يروا الكفار شيئاً من الجلد والقوة، وهذا من المعاريض، والمعاريض تكون بالقول وتكون بالفعل، ومنه قول النبي عليه الصلاة والسلام في الحرب: (الحرب خدعة) فكون المسلمين يظهرون شيئاً من القوة -وإن كان عندهم شيء من الضعف-؛ ليرهبوا العدو، فهذا من المعاريض الفعلية، وكون الإنسان يقول كلاماً هو صادق فيه يريد شيئاً وغيره يفهم شيئاً آخر، فهذا من المعاريض القولية.
لكن جاء عن ابن عباس نفسه ما يدل على أنه سنة.
إذاً: فهو سنة، ولكنه في الأصل لم يكن للتشريع والتسنين وإنما كان لإظهار القوة؛ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك رمل في حجة الوداع من الحجر إلى الحجر، فدل هذا على أنه سنة؛ لأنه لو كان المقصود هو إظهار القوة أمام الكفار فقط لاقتصر على الرمل في تلك السنة التي هي عمرة القضية، ولكن كونه فعل ذلك في عمرة الجعرانة في السنة الثامنة، وفعل ذلك في حجة الوداع يدل على أنه سنة.
فقوله: [ليس بسنة] في هذا تذكير للمسلمين بأصل الرمل وسبب الرمل في الأصل، وأن المسلمين كان فيهم ضعف، وبعد ذلك أعزهم الله، والرسول صلى الله عليه وسلم صُدَّ عن البيت ثم دخله، وقال الكفار فيه وفي أصحابه ما قالوا، ولكنه بعد ذلك دخل مكة فاتحاً صلى الله عليه وسلم، وصارت مكة تحت ولايته وتحت حكم الإسلام، فكان القول بأنه ليس سنة مخالفاً لما جاء في الصحيح من أنه رمل في حجة الوداع، وكذلك ما جاء في حديث عمرة الجعرانة.
وقوله: [ليس بسنة] هذا كلام ابن عباس وليس كلام النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام قال لهم: [(ارملوا)] يعني: في الأشواط الثلاثة، وأمرهم -كما جاء في الصحيح- أن يمشوا بين الركنين حيث تحجب الكعبة بينهم وبين الكفار؛ لأنهم من جهة الحجر، فإذا اختفوا عنهم مشوا، وإذا ظهروا عليهم من الجهة الأخرى رملوا.