للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[شرح حديث: (والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن إسماعيل بن أبي خالد حدثنا عامر قال: أتى رجل عبد الله بن عمرو وعنده القوم حتى جلس عنده، فقال: أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)].

أورد أبو داود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، أنه جاءه رجل وسأله عن شيء سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه) أي: المسلم الحق والمسلم الكامل.

والمهاجر الحق من هجر ما نهى الله عنه؛ لأن من هجر ما نهى الله عنه وجاهد نفسه يستطيع أن يجاهد الكفار، ويقاتل في سبيل الله؛ لأنه جاهد نفسه، وطوعها لله عز وجل.

والمسلم هو الذي سلم المسلمون من لسانه ويده، فلم يصل إليهم أذاه، لا من يد ولا من لسان، وذكر اللسان والمقصود به التكلم في الناس والوقوع في أعراضهم، وقد عبر باللسان ولم يعبر بالقول، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري: إن التعبير باللسان دون التعبير بالقول من فوائده أن الإنسان يمكن أن يؤذي بلسانه بدون قول، كأن يخرجه ويستهزئ.

وكذلك كلمة: (يده) يفيد عمومها أن الإنسان قد يموت وتبقى آثار يده بالكتابة، من كونه يكتب سوءاً، ويكتب أموراً منكرة، ويكتب ضلالاً، ويحرر بيده أمراً باطلاً، ثم يبقى ذلك الكتاب فيتضرر منه الناس، فهذا يكون من ضرر اليد، ويمكن أن يكون الضرر في حياته بالضرب وبالبطش وغير ذلك، ويمكن أن يكون بالكتابة، ثم تبقى الكتابة بعده، ويتضرر الناس بما خطته يداه؛ ولهذا يقول الشاعر: كتبت وقد أيقنت يوم كتابتي بأن يدي تفنى ويبقى كتابها فإن عملت خيراً ستجزى بمثله وإن عملت شراً علي حسابها فاليد آثارها تكون في الحياة وتكون بعد الممات.

والمهاجر حقاً من هجر ما نهى الله عنه، والذي يهجر ما نهى الله عنه ويستقيم على طاعة الله ويكون قوي الإيمان، هو الذي يكون له النكاية في الكفار، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما غزوا الكفار وكان عددهم قليلاً، وعدتهم قليلة، وكان الكفار أكثر منهم عدداً، وكانوا أقوى منهم عُدَداً، ومع ذلك كان الكفار يشخونهم؛ لأن عندهم قوة الإيمان؛ ولأنهم هجروا ما نهى الله عنه، وصدقوا الله عز وجل في إيمانهم وفي يقينهم وفي تقربهم إلى الله عز وجل، فخافهم الكفار، وحيث كان الناس في هذا الزمان بالعكس، فهم كثرة كاثرة، ولكنهم غثاء كغثاء السيل، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان شأنهم أنهم يخافون من الكفار والكفار لا يخافون منهم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>