للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تراجم رجال إسناد حديث: (كانت يد رسول الله اليمنى لطهوره)]

[حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع].

هو أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وأبو توبة الحلبي هذا هو الذي اشتهرت عنه الكلمة المشهورة في حق الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وفيما يتعلق ب معاوية، وهي أن معاوية رضي الله عنه ستر لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن اجترأ عليه اجترأ على غيره، ومن تكلم فيه تكلم في غيره.

ولهذا قال: هو ستر لأصحاب رسول الله.

يعني: هو حاجز وحاجب، ومن اجترأ عليه فقد تجاوز ذلك الحجاب، بمعنى أنه: عرض نفسه وسهل لنفسه أن يتكلم في الصحابة؛ لأنه تكلم في واحد منهم، ولذا قال: هو ستر لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن اجترأ عليه اجترأ على غيره، يعني: أن من سهل عليه أو أقدم على الكلام فيه بما لا ينبغي وبما لا يليق فإنه يسهل عليه أيضاً أن يقع في بقية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهي كلمة عظيمة وواضحة؛ لأن ذلك الصحابي الجليل رضي الله عنه تكلم فيه بعض من لم يوفق ومن خذل ولم يحالفه الصواب، فتكلم فيه وقدح فيه، وهو أحد كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحب رسول عليه الصلاة والسلام.

والكلام في أي واحد من الصحابة إنما هو علامة على خذلان فاعله، كما قال أبو المظفر منصور السمعاني في كتابه الاصطلاح -وهو رد على أبي زيد الدبوسي من الحنفية-: إن القدح في أحد من الصحابة علامة على خذلان فاعله وهو بدعة وضلالة، فالتكلم في أي واحد من الصحابة إنما هو دليل على سوء المتكلم ودليل على أن المتكلم أقدم على الإضرار بنفسه.

ولهذا الحافظ ابن حجر رحمه الله لما جاء عند حديث المصراة في صحيح البخاري وذكر أن بعض الحنفية لا يقولون بمقتضاه فيما يتعلق بكونه يرد الشاة ومعها صاعاً من تمر؛ لأن أحد الحنفية قال: إن الحديث من رواية أبي هريرة، وأبو هريرة ليس في الفقه مثل عبد الله بن مسعود! أبو هريرة له آلاف الأحاديث، وإذا تُكلم فيه في حديث سهل الكلام في الأمور الأخرى، وما الفرق بين حديث وحديث؟ فالحافظ ابن حجر رحمه الله قال: وقائل هذا الكلام إنما آذى نفسه بكلامه.

يعني: أنه قال كلاماً أذاه ومضرته عليه هو، وليست على أبي هريرة.

فالاعتذار الذي حصل من أن الحديث من رواية أبي هريرة وهو في الفقه ليس مثل عبد الله بن مسعود معناه: أنه ليس بفقيه، وهذا كلام ساقط وكلام باطل.

ولهذا قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وقائل هذا الكلام إنما آذى نفسه وتصوره كافٍ في الرد عليه.

يعني: أنه لا يحتاج إلى رد، بل مجرد تصور هذا الكلام يعرف أنه سيء وأنه كلام ساقط وأنه لا قيمة له، وهذا يغني عن أن الإنسان يشغل نفسه في الرد عليه؛ لأن هذا كلام في غاية السوء.

فالصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يجب احترامهم وتوقيرهم واعتقاد أنهم خير الناس وأنهم ما كان مثلهم في الماضي ولا يكون مثلهم في المستقبل.

والذي يتكلم فيهم وقد مضى على عصرهم أزمان معنى هذا: أن الحسنات تجري عليهم حتى ممن يقع في نفسه شيء عليهم، فيؤخذ من حسنات المتكلم للذي تكلم فيه، كما جاء في حديث المفلس في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس من لا درهم له ولا متاع)، يعني: أن المفلس حقاً هو الذي ليس عنده درهم ولا متاع، نعم هو مفلس في الدنيا لكن المفلس حقاً هو المفلس في الآخرة، ولذا النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولكن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام وحج ويأتي وقد شتم هذا وضرب هذا وسفك دم هذا وأخذ مال هذا، فيعطى لهذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار).

ف أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي قال هذه الكلمة العظيمة التي فيها بيان قدر الصحابة، وأن من سهل عليه أن يتكلم في واحد منهم فمن السهل عليه أن يتكلم في غيره.

[حدثني عيسى بن يونس].

هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[عن ابن أبي عروبة].

ابن أبي عروبة هو سعيد بن أبي عروبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[عن أبي معشر].

أبو معشر هو زياد بن كليب الحمصي ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.

[عن إبراهيم].

هو إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو يرسل كثيراً.

وهنا يروي عن عائشة، وهذا من قبيل المرسل؛ لأن الحديث الذي سيأتي يبين أن هناك واسطة بينه وبينها، وهو الأسود بن يزيد النخعي، وأيضاً هو توفي سنة (٩٦هـ) وعائشة توفيت سنة (٥٩هـ) وعندما توفي كان عمره قريباً من خمسين سنة، يعني: أنه ما أدرك من حياتها إلا الشيء اليسير، وهي كانت بالمدينة وهو كان بالكوفة.

والحديث الذي بعده يوضح هذا؛ لأنه من رواية إبراهيم عن الأسود عن عائشة، ففيه واسطة، وهذا يبين أنه مرسل، والمرسل في اصطلاح المحدثين المشهور فيه: أنه قول التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه يطلق إطلاقاً عاماً على رواية الراوي عمن لم يدركه أو أدركه ولم يلقه.

[عن عائشة].

عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق وهي التي حفظ الله تعالى بها الكثير من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لاسيما بما يتعلق في أمور البيت وما يجري بين الرجل وأهل بيته مما لا يطلع عليه إلا النساء؛ فإن عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها حفظت الكثير ووعت الكثير من السنن التي لا يطلع عليها إلا النساء مما كان يجري بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين زوجاته.

فهي من أوعية السنة، وقد رفع الله شأنها وأعلى ذكرها وأنزل الله براءتها فيما رميت فيه من الإفك في آيات تتلى من سورة النور، ومع ما أعطاها الله عز وجل من الفضل وما أكرمها به من الرفعة كانت تتواضع لله عز وجل، كما جاء في الصحيح أنها رضي الله عنها وأرضاها هجرها رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة طويلة وكان يقول لها: (يا عائشة إن كنت ألممت بذنب فتوبي إلى الله واستغفري)، ولما أنزل الله براءتها كانت تقول: (وكنت أتمنى أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه رؤيا يبرئني الله بها -لأن رؤيا الأنبياء وحي- ولشأني في نفسي أهون من أن ينزل الله فيّ آيات تتلى) أي: أنها تقول عن نفسها: أنا لا أستحق أن ينزل فيَّ القرآن، وإنما كانت تتمنى أن يأتي وحي عن طريق المنام، يرى النبي صلى الله عليه وسلم فيه براءتها، ولكن الله برئها مما رميت به بآيات، ولكن هذا يدل على تواضعها.

وابن القيم رحمه الله في كتابه (جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام) عندما جاء إلى الكلام على الصلاة الإبراهيمية وعندما جاء في الكلام على آل محمد ذكر كلاماً عن أمهات المؤمنين، وكل واحدة منهن عقد لها فصلاً وأتى بكلاماً يخصها، ولما جاء عند عائشة رضي الله عنها وأرضاها وبين ما أكرمها الله تعالى به وأشار إلى تواضعها في قولها: (ولشأني في نفسي أهون من أن ينزل الله في آيات تتلى)، قال معلقاً على كلامها: فما شأن من يصلي ركعتين في الليل ثم يقول: أنا كذا، أو يصوم يوماً من الدهر ويقول: أنا كذا؟! يعني: أنه يتبجح بعمله، وهي التي أعطاها الله عز وجل من الإكرام ما أعطاها ومع ذلك تتواضع، كما قال الله عز وجل في حق أوليائه: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}، أي: يؤتون ما آتوا من الأعمال الصالحة ويتقربون له بالأعمال الصالحة ومع ذلك قلوبهم وجلة، وهم وجلون خائفون ألا يتقبل منهم، {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:٦٠]، فهذا هو شأن أولياء الله: جمعوا بين العمل والمخافة والتواضع.

<<  <  ج:
ص:  >  >>