في هذا الحديث دليل على أنه لا حاجة أن يعرض الحديث على الكتاب؛ لأنه حكم مستقل، فإذا وجد حديث صحيح ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يعمل به دون أن ينظر هل معناه موجود في الكتاب أو لا، وهل يشهد له الكتاب أو لا، نعم هناك أحاديث لها شواهد في الكتاب لكن لا يقال: إن الحكم لا يثبت بها إلا بوجود هذه الشواهد في القرآن، فإن السنة أصل بنفسها، وهي أصل مستقل يؤخذ بما فيها وإن لم يكن ذلك موجوداً في الكتاب، وكما قلت آنفاً فإن في السنة أحكاماً لا بد للناس منها، وهي لا توجد في الكتاب، مثل عدد ركعات الصلوات، والصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وهي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، ومع ذلك فكيفيتها جاء بيانها في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يوجد بيانها وتفصيلها في القرآن.
وبعض أهل العلم يقول: لا ينبغي أن يقال: إن السنة في المرتبة الثانية بعد القرآن، وإنما السنة مع القرآن في مرتبة واحدة، وهذا من حيث الاحتجاج والعمل بهما، فكلاهما يتعين الأخذ به، لكن -كما هو معلوم- أن القرآن كله متواتر، وأما السنة ففيها المتواتر وفيها الآحاد.
وقد جاء في حديث معاذ المشهور أنه يبحث في القرآن، فإن لم يوجد ففي السنة، فإن لم يوجد فيجتهد برأيه، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم وصححه بعضهم، ولكن يوجد له شاهد يدل عليه في (سنن النسائي)، وقد سبق أن مر بنا، وهو في باب الحكم بما قضى به أهل العلم، وقد جاء فيه أنه يبحث في الكتاب، ثم يبحث في السنة، ثم يقضي بما قضى به أهل العلم، فهذا يدل على أنه يبحث في القرآن أولاً، ثم يبحث في السنة، لكن إذا وجد حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يتعين العمل به، ومن المعلوم أن الإنسان يبحث في القرآن أولاً، فإذا كان الحكم موجوداً في القرآن فالأمر واضح، ولا يحتاج معه إلى شيء آخر، وإن جاء في السنة شيء يوافقه ويؤيده ويدل عليه، فإنهما يكونان متفقين على إثبات ذلك الحكم؛ ولهذا يقولون في بعض المسائل: وهذا الحكم دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، فأما الكتاب فكذا وأما السنة فكذا، وأما أن يغفل الإنسان عن الدليل الذي في القرآن ويذهب للبحث عنه في السنة فهذا قصور، وهذا مثل الإنسان الذي تجده يبحث عن حديث في كتب غير مشهورة، أو كتب غير معروفة بالصحة ويغفل ما هو موجود في الصحيحين، فإنهم يقولون في مثل هذا: أبعد النجعة، وهذه عبارة عند المحدثين والعلماء في مثل هذا، وكذلك لو أخذه من غير الصحيحين فإنه يقال عنه: أبعد النجعة، أي: أنه ذهب بعيداً، وترك الشيء الذي كان يمكنه أن يكتفي به عن غيره، فإذا كان الحديث موجوداً في الصحيحين فلا يحتاج إلى أن يبحث عنه في غير الصحيحين، إلا إذا كان ذلك من ناحية إثبات كثرة المصادر، وكثرة الطرق، وكثرة المخارج، وأما من ناحية الاكتفاء فما جاء في الصحيحين يكفي، وكون الإنسان يعزو شيئاً إلى السنن وهو موجود في الصحيحين فهذا قصور.